سخافات حقيقيّة

؛

أظنّ أنّ فكرة الكتابة لك تروقني أكثر، تمنّيت لو أنني اتخذتها وسيلةً منذ البداية ووفّرت عنك عناء الكثير من الأحاديث المطوّلة، والتذمّر المرهق أو سؤالك أن تدعو لي ببساطة، ربما لأنني أتصرف بناءً على قناعتي بأن الثقة لا تمارسُ بل تبقى طبيعةً غالبةً ليس من المهمّ أن نشير لها في الكلام أو التصرفات طالما أننا نتصرّف بناءً عليها.

ربما لهذا السبب أيضًا لم أكن أخبرك عن تفاصيل وأحداث كثيرة في العام الماضي، وتفاصيل وأحداث كثيرة طوال هذه الأشهر أيضًا، وجدتني كما أنا دومًا لم أتغير باختلاف الظرف والوضع القائم، أظنّ أنّني سأترك هذا الشيء محض أمرٍ مؤجّل من دون أن أرهق نفسي في التكلّف أو ادعاء تصرّفات لاتشبهني بعد،

وجدتني دومًا أحرص فقط أن أعيش اللحظة معك، هكذا باختصار شديد، المهم أننا معًا، لاتهمّ تلك التفاصيل والأحداث السلبية المرهقة طالما أنّ هناك في النهاية مقعدًا واحدًا نتكئُ عليه في نهاية اليوم منهكين أو ساخرين، ننظر للبعيد بصمت ونقرر ببساطة أن ننال من العالم أو نلعنهُ معًا، خلال ذلك قد تمرّ في الحديث قصّة أو فكرة عابرة، لايهمّ الوقوف عندها كثيرًا، قد تكون محض مثال أو دليل أو قصّة أستشهد بها أو موقفًا لم يتسنّى لأحدنا إكمالهُ لأنّ هناك شيئًا أكثر أهميّة وأدعى للتفكير أو الوقوف طويلًا طويلًا في عين الآخر، كان هذا أكثر وأحبّ ماتعلمته منك، اللحظة التي يكون جزء كبير من تفكيرك غائب تمامًا عن تفاصيل الكلام وسيل المفردات الذي ينساب أثناء ثرثرتي، تبدو منصتًا بعمق واهتمام لكنّك تكون في الحقيقة في مكان أبعد بكثير، وفي لحظة تصنع دهشةً حقيقيّة كما لو كانت أوّل دهشة أشعر بها أمامك.. كنت أعرف دومًا أنّك لا تحبّ أن تشعرني بذلك لكنّك كنت تفهمني أكثر من نفسي، لهذا لم أكن أجد أيّ حذر في الحديث بأيّ طريقة أو في أيّ موضوع معك، كنت تدهشني حين تكمل الحديث عنّي، أو تبتسمُ بحنان ساخر من سخافتي حين أتلعثمُ في سرد حكاية أو موقف يضايقني وأتجنّب ذكر اسم الشخص الذي أزعجني فيه، فتذكره بنفسك وكأنك كنت معي دومًا، تقف بعيدًا كي لا تشعرني بأنّك تقيّد حريّتي لكنّك تعرف كيف ترعاني وتحرسني جيّدًا، تنتظر بهدوء أن ينتهي أي موقف أو عمل كان، وتكون واثقًا من أنني سأدير ظهري لكلّ مايزعجني وأركضُ نحوك.. أفتعل ضجيجًا أو أطرح فكرةً أو أنصت لك ببساطة أو أجرّب حظّي في محاولة هزلية أسخر منها أمام نفسي لأن أكون محض أنثى تجيد مايسمّونه كيدًا أو خبثًا،

حسنًا كانت هذه أكثر مسألة شائكة بداخلي على الدوام حدّ أن الموضوع برمّته كان يثير سخطي، من الصعب أن تصدقني لكنني سأتحدث عن نفسي فحسب ولك ماشئت، في الحقيقة .. لطالما تمنّيت أن أتعلّم فنّ الكيد أو الخبث هذا، حتى أنني كنت ومازلت حتى اليوم في مواقف كثيرةً أجد نفسي أسأل صديقةً أو جارةً وحتى أختي الصغرى وبمنتهى الصدق كيف أستطيع أن أتعلم ذلك وأتقنه من دون أن يبدو ذلك أمرًا مصطنعًا؟ لطالما كان هذا السؤال سببًا متكررًا في مختلف الظروف والجلسات لإثارة فرقعة عالية من الضحك.. تستطيع أن تشارك الجميع شرف السخرية أنت أيضًا، المسألة ليست في صعوبة اكتساب خصلة أو تعلم طريقة ما للتعامل بغضّ النظر إن كانت سيئةً أو جيّدة، المسألة فقط في أنّني أشعر بأنني سأحتاج لوقت طويل كي أفهم السبب أو الفكرة الرئيسيّة التي قد تدفع أي شخص من أيّ جنس لأن يلتفّ حولها بطريقة أفعوانية تبقى في نظري رخيصة حتى اليوم، من ناحية أخرى، كنت مكتفيةً بشعوري بالرّضى التام معك حتى حين تستفزّني بالحديث عن الكيد لتثير دنوني لا أكثر فتلصقه بكلمة أو حركة ما، لكنّك كنت دائمًا ماتبتسمُ بنفس الحنان أمام سيل الكلمات العشوائية حين أنتفض كطفلة ساخطة وأتحول لظاهرة حركية تتقافزُ على الأريكة في محاولة بائسة لأن تشرح لك أنها لاتملك هذه الخصلة أبدًا، تملأ حديثها بقصص تحسبها دليلًا يثبت براءتها لكنّها تكون وبكل بساطة لاتبدو أكثر من كائن مثير للسخرية والشفقة. لم تكن تظهر أنّك تعرفني جيّدًا بوضوح لكنّك دائمًا ماتتعامل على هذا الأساس، وأشهد أنّ هذا أكثر ماكان يشعرني بالسلام في داخلي مهما بدوت أمامك عكس ذلك، لاتتعمّد أن تشير إلى الفكرة العامّة لكنّ حدثًا أو قصّة أو ملاحظةً ما كفيلة بأن تجعلني أفهم جيّدًا أنّك تعرفني أكثر مما تظهر لي.. ولهذا لم أشعر يومًا بالخوف بل بمنتهى الأمان أمام صمتك، أذكر مثلًا حين كنت أخبرك عن استغرابي من أحاديث الفتيات في الجلسات النسائية، عن أسئلتهنّ السخيفة ونصائحهنّ الغريبة وتفكيرهم الذي كثيرًا مايبدو لي رخيصًا، مبتذلًا .. ومدعاةً للهرب بصدق في أحيان أكثر.. لطالما هربت إليك مذعورةً من حديث أو نصيحة جريئة، مازلت ألمسُه كاملًا ذلك الدفء الحقيقيّ الذي شعرتُ به حين التفتّ يومها نحوي مذهولًا بصورة واضحة لكنّها لم تكن كافيةً أبدًا لأن تخفي غضبًا كنت تحاول أن تتحكّم به لأنك كنت دومًا مطمئنًا لفكرة أنني أخبرك بكل ما أسمعه على كل حال، كان تعليقًا ساخرًا، وأمرًا قاطعًا لاجدال فيه لكنّه كان أكثر من الكفاية عندي لأن أطمئنّ وأبتسم بحبور للأبد (انت تجلسي مع ناس غريبة! ياخي النساء والله العظيم غريبات! كم مرّة أقول لك لاتجلسي مع ناس غريبة من ورايا، مو مهم ياخوي المهم إحرصي تظلي بعيدة عن هاذي الأفكار ياحبيبي ماتحتاجيها أبدًا! عيييب عييب كم مرة أقول لك إنت كدا كويسة جدًا لا أحد يلعب لي فيكي مفهوم؟)

كانت آخر جملة سببًا متاحًا لأفتعل غضبًا أو شجارًا مزيفًا يومها وأنا أنتهز الفرصة لأخبرك أنني أبقى أنتظرك أنت فقط ولاأهتم لأي وقت قد يمرّ وأنت مشغول حتى نلتقي لكنّك تضعني في حالة ارتباك حقيقيّة حين تتحدثُ بحياديّة تامّة وكأنّك شخص آخر، تبدو مهمومًا من دون أن أفهم مايزعجك.. كل ماتجدهُ لديك هو أنك تخاف من الاقتراب منّي أكثر!! كانت هذه أكثر فكرة تدفعني لساعات طويلة من البكاء بعد كلّ لقاء يجمعنا في أي مكان ولأيّ مدّة كانت! لم أستطع أن أفهم السبب يومًا رغم أنك كنت تكرره على الدوام بعدة صيغ، (لا أستطيع أن أجرحك، أخاف أن أمسّك أحيانًا، أنت بريئة جدًا، لايمكنك أن تري نفسك مثلما تبدين للآخرين صورة أبيض بكثير مما تحاولين إخفاءه) .. كنت تخفّف ثقل الكلام عليّ وتزيح عن كاهلي كثيرًا من حيرتي بمجرّد أن ترفع حاجبك ساخرًا كتتمّة للجملة لتترك طابعًا أو نكهةً طريفة للحوار فقط، دائمًا ماكنت أخبرك بأنك تمثّل ماهو أكثر من المأوى والكفاية والدهشة التي لاتنتهي والغبطة الحقيقية عندي بتفاصيل بسيطة كهذه، لست حريصًا على إضفاءها أبدًا لكنّك تخصص لها أيضًا متسعًا رحبًا من تفكيرك واهتمامك، تبقى حنونًا حتى في أشدّ لحظاتك غضبًا وسخطًا من أي أمر كان، لطالما أسرني هدوءك وصرامتك، لست صلبًا أبدًا لكنّك صارم وثابت فعلًا، غير أنه من المستحيل أن يتجاوزك أو يمرّ بك أيّ أحد من دون أن يبتسم لك حتى وإن لم يكن يعرفك.

يحضرني كثيرًا طيف أبي حين أتحدث معك وعنك، يدهشني تشابه كبير بينكما لدرجة لمستها بنفسك من حديثي، لكنه لم يكُن يومًا السبب الذي جعلني أتعلّق بك، لقد كان دومًا أكثر الأسباب التي تجعلني أشكرُ الله وأحبّه بقدر لايمكن أن تتخيّله إلا لو عرفت مايعني فعلًا وبمعنى الكلمة أن تحصُل تمامًا على شيءٍ أردته بعينه، مابالك لو كانت أمنيةً لم يطّلع عليها أحد سوى الله!

أعرفُ أنني أملك شخصيّة عاطفيّة أكثر من كونها حسّاسة، ولهذا كنت أعرف نفسي أكثر من غيري حدّ أنني لم أكترث يومًا لمن يسيء فهم تصرفاتي و ردود أفعالي ممّن لايفعل، أعرفُ دائمًا كيف أتصرّف باتزان وحسم، لهذا كنت أعرف كيف أضع حدّا واضحًا في علاقاتي، ستفهمني أكثر حين أقول لك بأنّك تعيش فكرةً مماثلةً الآن، أعني.. مسألة أن أضع نفسي في حالة حياديّة لادفاعيّة معك احترامًا لقناعاتك وليس تصرّفاتك.. أمرٌ بديهيّ جدّا.. فكرة أنّنا نبقى دومًا بشرًا قبل أيّ شيء تشكّل عندي نقطةً فارقة على الدوام في معادلات علاقاتي أدعوها بـ (النّقطة صفر) لأنها تبقى دومًا في نظري نقطة ارتكاز، تشبهُ مساحةً لايهمّ كم يبلغ اتساعُها لكنّها المساحة التي نقف عندها متجرّدين تمامًا من كلّ أسبابنا ومبرراتنا وادعاءاتنا ومخاوفنا، مساحة نقف فيها على الفطرة عُراةً من كل أحمالنا وظلال أعمار تبقى تتراكم على أكتافنا زمنًا تلو آخر، عُراة من كلّ شيء.. كصفحة بيضاء أو ببساطة .. محض بشر على الملّة الأولى، الأمر الذي يستطيع دائمًا أن يغيّر موازين المعادلة عندي بالطبع أو أن يحظى بانحياز كبير مني على أقلّ تقدير، لكن عليك أن تقف هنا قليلًا لتلتقط أنفاسك، لعبة الجَبر كانت أكثر ماوضعني في مواجهة حقيقيّة مرهقة مع نفسي.. لأنّها دائمًا ماتكون مرتبطةً بخطوط متوازية ولايهمّ إن كانت متساوية أبدًا.. تجد نفسك معها في مواجهة شرسة مع نفسك، لاأميل لتسميتها تحديًا لأنّك تبقى رابحًا في النهاية على عدّة أصعدة .. لكنّ الفكرة فيها تكون قائمةً على ضبط النّفس، عليك أن تعرف كيف تناورُ نقاط الضعف في شخصيّتك بحدس قويّ ومرن مما سيجعلك قادرًا على النّظر إلى المعطيات بوضوح وإدراك أكثر، قد تضحك الآن وقد تراها محض ثرثرة أو فلسفة لاحاجة لها ..

لاأعرف، ربما اكتسبت عاطفة خاصّة تجاه الأرقام والرياضيات كوني تربيت في بيت كانت المسائل الحسابية فيه قاسمًا مشتركًا ذو سيادة حقيقيّة، أمر جعلنا دومًا ومن دون أن نشعر نضع لها اعتبارًا أكبر، كثيرون ممّن حولي يعتقدون أن انحيازي للحساب متعلّق بمهنة أمّي أو من جانب عاطفي، لكنّ الأمر عائد في الحقيقة لصورة أوسع .. بالمناسبة أنت الآن تسير في معادلة حسابية قائمة على قانون النّقطة صفر (أردت أن أضع لمسةً من الإثارة قليلًا.. تبدو لعبة الأرقام أمرًا مملّا يجعل كثيرين يتجنبون الحديث أو القراءة فيها، ربما لأنّ قلّة من سلّطوا الضوء أو التفتوا لعنصر الإثارة المتجدد فيها) .. سأبسّط لك الأمر قبل أن تطوي الرسالة بعناية وتضعها جانبًا، تمامًا كما فعلت حين أغلقت عدسة التصوير، وعلّقت الكاميرا على صدرك، وشكرت زميلًا عابرًا في دورة تصوير فوتوغرافي، ستظنّني أسخر منك أو أشير لصفة ما في شخصيتك، على العكس تمامًا، وددت لو أنّني كنت معك في تلك الدورة لأضمن لك يومًا تدريبيّا ممتعًا بقدر استطاعتي، عنّي مازلتُ لم أتجاوز نقاطًا أبعد ممّا علمتني إيّاه من أساسيات يجب أن ألتفت لها في فنّ التصوير، لهذا لن أكون مدرّبةً، ولا زميلة بالطّبع لأنني سأكون عبئًا ثقيلًا كزميلة دراسة في مجال لا أعرف إلا أقلّ القليل من كلّ ماتتقنه فيه لذا سأبدو بلا شكّ أشبه بنقطة توقّف متكررة سترهقك أكثر مما تساعدك، لكنّني أظنّني أستطيع أن أكون (آلاءً) جيّدة، بغضّ النظر عمّا أمثّله، أعني أنّني كنت أستطيع يومها أن أكون الشخص الذي يمكنهُ أن يفتعل ضجّة في المكان أو أيّ شيء يمكن أن يلفت انتباه زميلك ذاك.. فقط لأخبره بهدوء وحيادية تامّة أن يكون حريصًا في نقل المعلومة لك بشكل دقيق وإن كان مختصرًا، المهمّ أن لايتصرّف باحترافيّة، أو يخفّف من أهميّتها وأثرها في التقاط المشهد، فيتحرّك بمرونة وبساطةٍ شديدة.. لاتوجد أيّ نوايا سيئة هنا أبدًا بل على العكس تمامًا، محضُ زميل متمرّس، لكنّ إعجابه وانحيازهُ لتطوّر التقنية المتجدد وتعدد توفّرها بطرق يسهل الوصول لترتيبها وإعدادها كان سيّد الحدث. أمرٌ وضعك بشكل بديهيّ بعد وقت طويل من المحاولات في لحظة ذهول مفاجئة.. كانت آخر مايمكنُ أن يحتملهُ غيظُك أكثر من هذا، بدا الأمرُ وكأنّ شيطانًا ماكرًا ظهر أمامك مادّا لسانهُ بطريقة مستفزّة ليخبرك ببساطة (ألا تعرف حقّا؟)، البساطة لا تستفزّك لأنّك أنت نفسك إنسان شديد البراءة والبساطة، لكنكّ الدقّة وشدّة الحذر فيك أمر يبقى من أجمل ما لايمكنك إخفاؤه مهما حاولت ذلك، بالمناسبة .. قد يبدو رأيي ساذجًا ولكنني لطالما اعتبرت هذه الصفة هي النقطة صفر عندك، الأمر الذي وضعك في تلك اللحظة في حالة غيظ شديد من أنّك تعرف حركةً شديدة البساطة والوضوح ولكنّك لم تنتبه أنّك تستطيع استخدامها منذ البداية لتروّض محض آلة ماكرة بدل أن تصرف كلّ ذلك الوقت والجهد في محاولات غير مرضية أبدًا. النقطة صفر تلك عادةً ماتكون أكثر الأسباب التي تضعك في حالة أسميها مأزقًا صعبًا بالذات مع دائرتك الخاصّة من العلاقات، حالة (لاخلاص.. شكرًا)

ليس من الصعب أن يتفهّم أحد أن كلمةً أو حركةً واحدة أحيانًا تجعلك تكتفي في لحظة وتغادر المكان، إن كنت تحسبني أنتقدك مجددًا.. لطالما استحوذت شخصيتك على انتباهي فعلًا، لهذا كنت أقول لك دومًا بأنني لاأريد بل لا أقبل أن تتغيّر أيّ من صفاتك حتى ماتراه أسوأ مافيها، ربما يكون الأمر قائمًا على العاطفة نفسها لكنّ كل شيء فيك يبدو مرتّبًا بطريقة مثيرة للإعجاب والاحترام، لذا ستجدني في حالة كتلك أتبعك بصمت وأضعُ وجهًا باردًا بلا ملامح، أو مستغربًا بعض الشيء من دون أن أبدي تعليقًا على قصة يومك المستفزّة، بعض القهوة وأيّ شيء معها من دون أن أسأل..  سيكون تعبيرًا واضحًا عن أنّك بلا شكّ تستطيع أن تستغرق في كتابك أكثر.. ستكون ورطتي الوحيدة متمثّلة فقط في الموسيقى، ارتفاع الصوت وانخفاضه أمر نسبيّ ومتغيّر ولم يكن نقطة خلاف.. لكنّه عامل شديد الحساسية هنا لأنك لست منزعجًا على الإطلاق ولم يستفزّك شيء أبدًا، ولست غاضبًا لهذا الحدّ من الحرص! تريد مساحتك الحرّة من الهدوء لتركز فقط .. لكن من قال أن عليكِ  أن تجلسي بعيدًا ليكون المكان هادئًا كما لو كنتِ طفلةً .. يمكنك ترتيب ذلك من دون جلبة !

لأتجنّب ذلك أظنّ أن عليّ أن أوسّع خياراتي الموسيقية وأضع اهتمامًا أكبر لقائمة الطواريء أو الخطّة (ب).. سيكون اختيار مقطوعة هادئة وطويلة بما يكفي أمر يدفعني لأخفّض الصوت وأزفر بارتياح.. لكن عليّ الآن أن أتحجج بما نسيته في مكان ما لأفرغ كلّ الضحك الذي في داخلي .. حتى يكون الوقت ملائما لأن ألتقط كتابي وأعود بهدوء شديد وأجلس على الأريكة وأسترسل في القراءة.. تستطيع عندها أن تدبّر أمرك بمفردك أو تطلب لو أردت شيئًا، لكنني لن أفكّر في أن أشير لذلك.. لأنني سأكون قد انخرطت فعلا في صفحات الكتاب حتى حين.

 

في لحظات كهذه يحكمني شعور بأن كل هذا الكلام وغيره يبدو سخيفًا بما يكفي حدّ أن أغير رأيي ولا أرسله..

وهذا مايجعلني أصمت أكثر،

أحاول التخلّص من سلبيّات كثيرة وأفكار سلبية حولي، وأنسى أو أتناسى تجارب سلبية أخرى..

ربما أكثر فكرة تسيطر عليّ هذه الأيام هو أنني لن أفكر في الخوف من الفقد أو غيره، ربما لهذا كنت مصرّة أن أذكرك دومًا أنني أكره أن يعاملني أحد كما لو كان أبي مهما كان صادقا وحريصًا فعلًا لأنني أملكُ واحدًا.. لكنّ هذا لايعني أيضًا أنني لاألجأ إليه أو لا أخضع لسلطته وإلا لما خرجت باختيار وقناعة من غلبة أبي على قراراتي منذ وقت طويل وتمنّيت أن أتشاركها يومًا مع رجل يشبهه لحدّ أو فكرة معينة .. لم تتعمّد أن تكونها يومًا لكنّك كنت صورةً فريدةً تشبهك وحدك .. أكثر وضوحًا وإتقانًا لدرجة كانت تجعلني في كلّ مرّة وعند أبسط المواقف والتفاصيل ألتفت على السماء واتساءل (أنت جاد؟؟ ألا أحلم؟) ..

لم أكن أحاول تمثيل دور ما هنا، كل مافي الأمر أنني أردت أخبرك أنه ربما كان عليك أن تنتبه فقط أن من يهتم لأمرك أو يتقبل تصرفاتك وأطول أيام صمتك لايمكنه إلا أن يشعر بذهول وحزن حقيقيّ حين تسأله إلى متى سيبقى هنا؟ أم إلى متى سيطول به الحال هكذا؟

مابالك حين يكون السؤال مفاجئًا بعد مسيرة أشهر كتلك التي مرّت ..

تمنيت للحظة لو أنك استطعت أن تتعرّف على أبي يومًا.. أو أختي الصغرى، أكثر اثنين في البيت يمكنهما أن يختصرا لك من هي أنا بأبسط الطرق الممكنة، لايشكّل أبي عادةً خصمًا لمن يفهمه، لكنّه يتجاوز الجميع في لحظة معتمدًا على سلطته فقط.. أقول هذا لأنني أعرف جيّدًا أي ثورة تثورها أمّي عندما يوشكُ الجدال أن يصل بيننا لنقطة مواجهة من شأنها أن تحدث التماسًا كهربائيًا في المنزل.. لكنّ نظرةً واحدة من أبي .. عادةً ماتكون غمزةً لا أكثر تكون كافية لأن يتعطّل الكلام تمامًا وأبتلع الصمت.. عندها لن تفوّت أمّي الفرصة من استنكار غلبته التي تحسبُ أنها لاتملكها عليّ ..

موقف أبي هذا .. يجعلني أذكر مثالًا يؤكد فعلًا أنك تبقى فكرةً وصورةً أكثر خصوصيةً وغلبةً في كلّ مرّة تماما مثلما كان يحدث حتى وإن وصلنا لأصعب المواقف، تبدو كما لو أنّك تستخدم قانون الطوارئ.. ولكنّه الفكرة السائدة دومًا.. فتقول بهدوء وبمنتهى الاتزان .. كما أنت تماما.. إن كان يمكن ولو لأي سبب أو بلا أي سبب فقط ندع الجدال ونضع كلّ شيء خلفنا الآن تمامًا؟ .. كان هذا أكثر موقف يجعلني أقف وماأزال أمامك بإجلال فعلًا..

الفكرة ليست في أن تنهي استياءً أو حتى تتصرّف بسلطة.. أبدًأ.. ولا في كل مالديّ من ذخيرة للتذمّر.. الفكرة في تلك الثقة المطمئنة.. شخص يعرف من هو تمامًا ليتجه بثبات نحو آخر ويتحدث بهذا الهدوء الذي لايمكن له أن يردّ أو يغلب، كان هذا دومًا مايجعلني في نفس اللحظة أفرغ تمامًا من كل ماكان لديّ من كلام حدّ أنني كثيرًا ماشعرت بأنني نسيت ماكنت أودّ قوله، ونسيت أي شيء دفعني لأن أستاء أصلًا.. لأصل في النهاية لإحساس بالأسف منك.. شيء أراك دومًا تستحقّه.. لايهمّ عدد المرات التي غلب صمتك فيها على الموقف كردّ ما، يبقى لثقل تلك اللحظة وقع واعتبار أكبر، لحظة من دون تفكير مسبق مضيت فيها بثبات مطمئنًا لقدرك ومكانتك فقط لتضع يدك على كتف شخص خائف من أن لايكون ذا قيمة تخصّه عندك وكأنّك تضعُ يدك على قلبه لتذكّره باسمه.. لحظة لايعود فيها أيّ أهمية لشيء.. كأنّ الكون فرغ من كلّ شيء سوى شعور عارم بالرضى ملأ شخصين في لحظة مدهشة.

ربما لهذا السبب أحدثك عنك أكثر منّي، لأنني وقفت مع نفسي في لحظة صعبة فعلًا ولكنني وجدت نفسي في حضرة عامل أشدّ ثقلًا وأثرا من النقطة صفر نفسها..

لهذا أبقى أنا كما أنا معك أنت، أبدو هادئةً لا يظهر على ملامحي شيء، أتصرف بحياديّة حاسمة فقط احترامًا لرأيك وألتزم صمتًا من نوع خاصّ لا أكثر، قد أتحدث بشكل طبيعيّ أمام الجميع، وليس من الوارد عندي أبدًأ أن أخبر أحدًا عن مشاكلي الخاصة .. أكون على طبيعتي تمامًا.. لكنّك ستجد أبي تدخّل ساخرًا، لا لأنه يفهمني وبالتأكيد سيكون منحازًا لكونك الرّجل كما يفعل مع اخوتي.. لكنّه يتدخل عندها لينقذك أنت ويلفت انتباهي لاقتراب لحظة خطر يتغير فيها جانب كبير في داخلي تمامًا من دون أن أظهر ذلك، تغيّر يضع من حولي في لحظة يأس حقيقيّة. يعني أستطيع أن أقول بأن مايستفزّني منه معرفته بي التي تجعله يفرضُ سلطته ليوقفني فجأةً، أعرف أن شهادته على عمر طويل ومواقف عديدة جعلته يكتسب مرونة وثقة على التدخل حتى وإن شعرت بأنني لاأستطيع أن أكون أنا أكثر من ذلك، كان هذا ومازال أمرًا يثير جنوني في أحيان كثيرة بالطبع، ولكني أظنّ بأنني بلغت شيئًا أو مستوىً لابأس به من الوعي يجعلني أفهم أنه يريد أن يحميني من نفسي ويحافظ لي على من يعرف أهميتهم عندي بأفضل مما كنت سأفعل.

أما مع أختي الصغرى فالأمر مختلف تماما.. لأنها تكون في موقف أصعب من أي شخص في البيت يقف معي في لحظة كهذه، ستحاول بجهد كبير أن تؤمن لنفسها وصولًا سريعًا من دون أن تثير أي ارتياب أو تتسبّب لنفسها بعقوبة مرعبة، تتصرف باستغراب منطقيّ، لم تكن يومًا شخصًا عاديًا عندي، تعرفُ دومًا كيف تكون مبادرةً بطريقة لاتتجاوز عمرها ولاشقاوتها اللذيذة.. بل تستخدمها لتنقذ أشخاصًا من المفترض أنهم أكبر منها وأكثر نضجًا لتنصرف بعدها وتنشغل في التفكير فيما يدفع من هم أكثر نضجًا لأن يتصرفو بطرق مستفزّة تشحن الجوّ بالتوتر وكأنهم محض أطفال، تضحكني عندما تتحدث عن شخص آخر، تستطيع أن تكون هي كما تشاء شرط أن لاتتخذ معرفتها بي سلاحًا أو وسيلةً تساعد بها غيرها لينقذ نفسه من ورطة حقيقيّة في الوقت الذي لاتتمكن فيه من إنقاذ نفسها حين يتعلّق الأمر بها، ستجدها الشخص الذي يحاول أن يجد وقتًا مناسبًا ليندسّ سريعًا ويتحدث بصبر نافذ تمامًا بطريقة مدهشة حقًا (أهاه، تستطيع أن لاتصدقها على كلّ حال، عليك أن تتسلّل من ناحية أخرى أو أن تهنأ بلا مبالاتك أو إشرافك على المشهد وتتظاهر براحة مصطنعة وكأنك لاتعرف أنها أجل فعلًا أكثر فأكثر لاتكون بخير من الداخل.. أنتم الكبار شيء مستفزّ بالمناسبة تتظاهرون بمعرفة كلّ شيء بينما لاتستحقون أن تتحكموا بأي شيء لأنكم لاتقودون العالم لشيء سوى توتر مقزز كهذا، على كلّ لاتتصرف كشخص كبير اذا احتجت المساعدة جميعنا نحتاجها بالمناسبة.. هففف)

وصلني هذا الكلام عنها بالنّص ذات يوم بعد خصومة طويلة وقعت بيني وبين أحد إخوتي.. الشخص الوحيد الذي لم يتوقع أحد أن أمتنع عن الكلام معه يومًا.. لكنها كانت 4 أشهر لايمكن لأحد أن ينسى وقعها على الجميع.. خاصةً وأن كلّ شخص منّا عنيد جدًا بطريقته الخاصة،

اليوم صرت أنت وصارت أغنيتي (عنيد أنت)

؛

مشكلتك أنّك لم تكُن أعند من أن تصدّق يومًا.. بل أعند من أن تنظُر فتجد في كلّ مرّة أن قلبك مازال محقًا.. لهذا عدت مجددًا لعادة سيئة تعاودُك كلّما أحسست بأنّك جُرحت أو جُررت لخدعة ما، عادة أن تمدّ يدًا محسنةً بمحض تساؤل أو نصيحة تحسبُ أن من حقّك أن تسديها، ولو من باب اللباقة أو الحرص لا أكثر، تقف بنُبل صارم لا يفاوضه خوف أو تردد، تقرّر فجأةً أنّ من واجبك أن تكون محايدًا، وتتحدّث بصيغة مموّهة كرجل كلاسيكيّ من الطراز الرفيع.

تنسى في كلّ مرّة أن أوّل ماعليك أن تضعه في حساباتك هو معرفة من تخاطبهم بك، وهذا مايوقعك دومًا في مأزق حقيقيّ، تنسى أن الطبيعة تبقى أقوى لذا ستبقى هي الغالبة دومًا، طوال الأعوام والأيام التي جمعتنا عشت مواقف كثيرةً أجاهد نفسي أن لا أمدّ يدي ببساطة وأضمّك بقوة فقط لأقول لك (حسنًا حسنًا .. توقّف عن الادّعاء، ليس هناك أيّ سبب لخوفك نحن هنا معًا وكلّ مايخيفك محضُ وهمٍ زائل) .. لكنّك تختار أن تحتفظ بمخاوفك وحيرتك لنفسك وكأنّك تقع فجأةً مع نفسك في لحظة لوم مانزل بها أيّ سلطان ولم تأت بها أيّ آية من ملل الخلق والأديان مذ صوّر الله من الطّين جسدًا ونفخ فيه من روحه فصار بشرًا، و بُعثَ نبيّا، ورسُولًا، وخليفةً، ومذنبًا، وتائهًا، وخائفًا، ومخطئًا، ومشتاقًا، وإنسانًا في كلّ مرّة ..

تلوم نفسك حين تجد نفسك ممسكًا بيد تشدّ على يدك وتحترم أسوار قلبك حدّ أن لا تكترث في كلّ مرة تتحسس طريقها بأيّ شيء قد ينالها وهي تتسلّق صمتًا طويلًا وعنادًا أشرس من أن يواجه بغير الحنان، تختار أن تنصرف لصمتك وتجرد نفسك في وحدتك، لكنّك في داخلك تكون مدركًا أن لست سوى ضحية وهم تختار بوسطيّة ورصانة أن تتكئ عليه قليلًا لتراجع حساباتك وتعيد ترتيب أوراقك، تضع لنفسك التفاتات منتظمة تنهرُ بها خوفك وتؤكد لنفسك بطريقة أو بأخرى أن كلّ شيء على مايرام.. تكره العشوائية بشكل عام، وبالطّبع لاتمقت شيئًا أكثر مما تمقت القيود، لم يكن عندي أي مشكلة مع كلّ هذا يومًا بل على العكس تمامًا، بدليل أنني مازلت أقطع المسافات نحوّك في كلّ مرّة وأمدّ أوراقًا ومسائل شائكة أو محض مخاوف زائفة أو محض شوق مغموس في ثرثرات وحيرة تستنزفُ صبري حقّا بينما أصرّ على أسناني غيظًا وأبقي يدي بجانبي مقبوضةً بجهد كبير في كلّ مرّة كي لا أسدد لك لكمةً من دون أن أكترث بما ستعوده عليّ من عقوبةٍ أو غضب أو دهشة حقيقيّة تعتريك فجأةً ولاتستطيع تزييفها أبدًا تدفعني دومًا لأن أجاهد أن لا أنفجر ضحكًا ببساطة لأنني أعرف جيّدا كم يغضبك أن أرى الطفل الذي بداخلك وأقدّسه في الوقت الذي تحسب أنّك أخفيته جيّدًا خلف قناع من المنطقية والصلابة.

كنتَ أعند من أن تنظر فقط طوال هذه الأيام والأشهر لا أكثر، كان يغيظك في كلّ مرّة أن تلتفت فتجد أن قلبك مايزال محقّا وكأن القدر لم يتصرّف في ذلك الأمر بعد، قليل الصّبر وأعند من أن تصدّق أن لقلبك كلّ هذه الغلبة فعلًا، الأنكى أنني شعرت للحظة وكأنك تريد منّي أن أثبت لك أنني سأملّ ذات يومٍ وأتراجع أو ألتفت غضبًا أو كرهًا! شعرت للحظة أنّك وضعتني في موضع رهان مع نفسك أنني لابدّ وأن أفعل ماقد تفعله أيّ أخرى ذات يوم، مع أنّك أكثر من أدرك بنفسه أنني لست سواي فقط،

كان مهينًا بالنسبة لي أن أجد نفسي مضطرة لأن أبرّر تمسّكي بشيء بريء لم أصدّق أنني وجدته في داخلي حتى اليوم، مضطرّة لأن أمدّ يدي في كلّ مرة خوفًا من أن تكون يدك تحاول أن تمتد باستغراب أو صمت لسماء مازالت تتسع بداخلي، تبتسم لها وينتشر الدفء في قلبك، تمسح بيدك على رأسي فيقشعر جنوني ويرتجف خجلي، تفهم هذا لكنك تتصرف فجأةً كما لوكنت لاتفهم كيف لي أن أجرؤ أن تكون كلّ لحظة معك ولأجلك وفي ظلّك حياةً وخلدًا أحفظه لي سرّا لم أدافع عنه ولم أكلّف نفسي عناء الحرص على حفظه لأنني تحديت الكون منذ البداية بغرور أنثوي لاأكثر أن يعلم أحد سرّ ثباتي وجنوني سواك. في لحظة واحدة جعلت نفسك مجرمًا تريد أن تحميني من شرّه، لكنّك كنت محض رجُل شهم بكلّ بساطة .. شيءٌ ما مُسّ في غروره.. لذا لم يكن منك سوى أنّك وبمنتهى النّبل حسمت أمرك وانحنيت باحترام لمشهد أخير والتفت بصمت.. من دون أن تخطو أي خطوةٍ أبعد !

حتى أنا لا أصدّق أنني لأوّل مرّة فعلًا أقف بنفسي على أوّل غضبة لي منك، لكن مايجرحني هو أن غضبتي لك لا عليك. جارحٌ بل مهين بحق أن أشعر للحظة أنك لا تفهم كيف مازلت أجرؤ على الاكتفاء بك أكثر. وجدتني فجأةً أضع يدي على قلبي خوفًا عليك لا منك وأقف خلف الباب مهزومة تمامًا. صرت أريد أن أصرخ في وجهك كما أجد نفسي أوشك أن أفعل أمام الكثير ممّن التفتّ عنهم وأخرجتهم من حياتي تمامًا. لكنني لم أكلّف نفسي يومًا عناء ذلك أبدًا. كنت دائمًا ألتزم الصمت وأمضي بك. لايهمّ إليك أو إلى أين المهم أنّك تبقى هنا دومًا.

أحترم قناعتك عن الحبّ نفسه منذ اللحظة الأولى في لقاءنا، كنت ومازلت سعيدةً بالمناسبة، حتى في كلّ المرات التي كنت أسألك عمّا يميزني عن غيري فيها كنت أحتفظ بسرّ سخيف لي وحدي، كنت دومًا سعيدةً بل فخورةً بأنني كما لو كنت طفلتك الوحيدة، المضغة التي ارتجفت بين يديك لأوّل مرّة، وعرفت كلّ معنى لأول مرة من كلّ حياة، كنت دائمًا ماأغيظ نفسي بأن كلّ شيء معك يبقى محتفظًا بنكهة المرّة الأولى ودهشتها من دون أن ينسينا لحظةً من ذاكرة دفء ظلّ يلفّنا عمرًا طويلًا.. وبقيت أمدّ يدي للسماء أشهرًا أتوسّل أن تفتح بابًا لمعجزة ما.

فقدت الرغبة بالحديث منذ وقت طويل بالمناسبة. لا أتحدث مع أحد إلا لممًا. لأنني لا أجد طعمًا للحديث. لكنني مازلت أنا حين أتحدث أو أناقش أو أترافع عن شيء. كل مافي الأمر أنه لايعنيني كثيرًا أن يكون لي نصيب من الحديث بعد ذلك اليوم. مرت أيام طويلة كنت أجلس فيها مزوية في المقعد الخلفيّ لأي سيارة أجرة أمام كورنيش الدمام .. لا أتمكن حتى اليوم من النظر لأكثر من خمس دقائق حتى أطلب من السائق أن يعيدني بسرعة من حيث أتيت. لا أشاهد شيئًا ولا أتابع خبرًا ولا ألتفت لكثير من أشياء اعتدت ممارستها وحدي. لم يكن جرحًا ولا وحشةً. كان كسرًا حقيقيًا أمام عقوبة صمت وجدتني أقضيها يومًا تلو آخر من دون أن أتمكن من إثارة شفقتك.

صدمتي الحقيقية حين وجدت نفسي بحاجة لأن أحدثك عنك، أو لأخبرك ماأعرفه لأبرر وجودي وكأنني بحاجة لأن أخبرك بأنني أدرك تمامًا أنك لم تبتعد لكنك امتنعت عن الحديث معي فقط. عشت أشهرًا طويلةً أتخبّط من فكرة لأخرى ومن ظنّ لآخر. من دون أن يهتزّ كبرياؤك وقدرك بداخلي بل كان يعلو، كنت أخفيه عنك غضبًا، وأحيانًا خوفًا وكثيرًا مايكون خجلًا لا أكثر. كنت صادقة حين أخبرتك أنني أقسمت أن لا أخبرك عن أي شيء عانيته وعاصرته طوال هذه المدّة لأنني أشعر دومًا أن من واجبي أن أحميك من الخوف قبل أي شيء آخر. لكنني وقفت أمام نفسي حقّا في لحظة صمت طويلة لأول مرة حين سألتني بكل بساطة (إلى متى ستبقين هكذا). لا أعلم بالضبط عدد الصفعات التي تلقيتها في حياتي لم أجد وقتًا حتى اليوم لأحصي جراحًا أو أتتبع خيبةً، لكنّ هذه كانت الأقوى فعلًا. عدت في لحظة للحظة التي وقفت فيها أمامك في جمعية الثقافة والفنون بعد أسبوعين من ذلك الاتصال. كدت أصرخ في وجهك لكنني امتثلت لسلطتك لا أكثر. كنت أرتوي من شيء يقفز من عينيك. بريق رأيته وحدي. وكأنني اكتفيت به ومضيت بصمت من دون أن أجرؤ على تجاوز كلمة امتثلت لها أمامك. أما عن ذلك الاتصال .. صدقني أنا نفسي لا أدري ما الذي منعني من أن أنطق الكلمة الوحيدة التي لمعت في رأسي طوال الوقت حدّ أنني لم أنتبه لما دار بالضبط. شيء ما بداخلي كان يدفعني لأن أقول لك بأنك كاذب لا أكثر. لكن دهشتي الحقيقية كانت أمام هيبتك التي لم تفقد يومًا أثرها عليّ.. شيء ما في صوتك ألجمني تمامًا حتى هذا اليوم. منذ تلك اللحظة وجدتني أبحث في كل لحظة معك عن كلّ جرم يمكن أن يكون سببًا.

أحيانًا كثيرةً أجدني أقف بصمت أمام السماء من دون أن أتكلم، قضيت وقتًا طويلًا أسأل الله إن كان صوتي يصل لك أم لا، ومرّت أوقات أطول وأنا أرجوه أن يجعلك تتصل بي فقط، كنت كلّ مرّة أزداد صمتًا فقط، وأعود لأعده بأنني سأحسن التصرف في الغد فقط أريده أن يعدني بأن تبقى بخير. وفي كلّ مرّة أعد نفسي بأنني لن أخبرك عن أي شيء مما مرّ بي، سأبتسم لك وأضحك كما كنا نفعل دومًا وكأن شيئًا لم يكن. وكأنّ زمنًا لم يمرّ ولا أي غربة عرفتنا أبدًا. في كلّ مرة أجد نفسي أشاركك الطريق فقط حتى تقرر أنت الكلام.. أربّت عليك خلسةً. وأبتسم لك سرًا. وأعدك بأن كل شيء سيكون على مايرام .. لا أعرف حقّا ماالذي كان يدفعك في كلّ مرّة لأن تعيد محاولة أشدّ عنفًا وصرامةً، وتعود مغتاظًا حين تجدني كما أنا. بل أشدّ ثباتًا.

أعرف عن الصّمت أكثر مما يمكن لك أن تتخيّل ياسيدي الكريم. عشته عمرًا وأعرف جرأتي على الالتزام فيه أعمارًا أخر. ذات مرّة حين كنّا في (د.كيف) أخبرتني أنني أملك نوعًا معينًا من التفكير والحساسية. شخصية تستطيع البقاء قوية لوقت غير مسمّى لكنها في لحظة واحدة ومن دون تفكير. تتخذ قرارًا حاسمًا في الخروج من الحياة تمامًا. حسنًا من يومها وأنا أريد فقط أن أخبرك أنني بطبيعتي إنسانة مرنة لا أكثر. أتفهم من يندفعون للانتحار يأسًا أو اكتفاءً. أحترم قرارهم أكثر مما أترافع عنه لسبب واحد فقط، قناعتي الشخصية بأننا نبقى بشرًا طوال الوقت، لاشيء، لا ظرف ثابت يحكمنا، لسنا منساقين بالتأكيد ولكننا لابدّ وأن نفقد السيطرة ذات يوم، كلّ مافي الأمر أن أحدًا منّا لم يعرف بعد ولم يصل لمرحلة اليقين التام من أن لا شيء يعني الاستمرارية هنا أكثر من ذلك. لذا لا أجد نفسي أجرؤ على أقضي بحكم أو أصف شخصًا قرر أو اضطر للرحيل بأي طريقة يسمونها انتحارًا بأي وصف أو حكم كان. لأنني لم أقف حيث وقف لأعرف أو أرى ما رآه بنفسه. النفس البشرية عالم رحب بالأكوان والأبعاد، شيء أعمق بكثير من أن نحصره في فكرة أو نسبر أغواره أو نرى مداه بالضبط، تبقى دومًا هناك نقطة أبعد. حتى أن ماركيز تحدّث بسخرية فجّة مرّة عن يأس أبعد وأسوأ بكثير لن يعرفه سوى رجل رمى بنفسه من سطح بناية يائسًا من كل شيء ولكنّه في طريق السقوط كان قد تذكّر أو وجد سببًا جديرًا بإبقائه لوقت آخر. لكنني في نفس الوقت هي الشخصية الانتحارية ذاتها. غير أنني لست من يفعلها، هذه هي بمنتهى الاختصار. أنا لا أنتحر .. لكنني فعلا أترك للموت أن ينهشني بحريّة ورضًى، تستطيع أن تعتبرها طريقةً خاصّة للاحتفاظ أو التعبير عن الحقّ الوحيد الذي يخصّني من شيء يشبه الرّد بالمثل. إن كنت قد رضيت تمامًا بقرار أحدهم فعليه أن يرضى ويقبل بالمثل بأيّ مما سيكون من دون أن يجرؤ على مطالبتي بأي شيء أو يراجعني في أي شأن كان. لذا لا أفترض ولا أتوقع ولا أفكر إن كان هناك من سيرضى أو يتقبل فكرة موتي أو يرفضها. لأنني سأفعل على كلّ حال هذا كلّ مافي الأمر.

أعرف تمامًا أنني  مصدومة جدّا، لكنني هذه المرة فعلًا وجدتني أجاهد لأعصر جرحًا غائرًا.. كما لو أن بنيانًا سقط على رأسي دفعةً واحدة، هذا كلّ مافي الأمر، أعرف أيضًا أنني لأوّل مرّة أتمسّك بعناد لم تجرّبه يومًا، وأقبض على صمت وعدتك مرّة أن لا ألتزمه أمامك حتى لاتخاف، لاأفكر في إخافتك بالتأكيد، أنا أنا.. لم أتغير مازلت أجد بنفسي نبضةً أخرى تزداد قوةً يومًا تلو آخر، لكنني شعرت بإهانة حقيقية حين وجدت نفسي بحاجة لأن أدافع عنك منك أنت. لم أجرّب الوقوف أمامك يومًا حتى وإن كنت أستطيع ذلك، لكنني أعرف لك هيبةً ومكانةً ربما يشبع غروري كل ماأجده يمتثلُ فيّ أمامها تلقائيًّا من دون أن أفكر في السبب، شيء ما لا أجرؤ على تجاوزه أو الجرأة عليه. ناهيك عن أشياء كثيرة أعرفها عني أنا، لذا لست بحاجة لأن أتصرف بطريقة لاتشبهني أمام نفسي أو أمامك لأي سبب كان، ربما كتبت لك ماكتبت كما لو كنت أريد لجزء من روح وأسباب تتنفّس ويعلو صوت موسيقاها بداخلي أن يبقى هنا ككلمة باقية. أو كهويّة لا أملك سواها، أعرف تمامًا أنك تعرف الكثير من هذا سلفًا، حتى وإن كنت قد مررت بالكثير من لحظات الدهشة حتى وصلت هنا، لكنني أردتك أن تفهم يومها فقط أن ماجرحني لم يكن تصرفًا بل سببًا دفعك لفعله. بدوت فعلًا كما لو كنت نسيت أو كنت تخاطب شخصًا آخر!، أعرف جيّدًا أنني ساذجة بشكل عام وسخيفة في أغلب لحظات جنوني، لكنني حزنت حين تساءلت بداخلي إن كنت قد نسيت فعلًا أنني لم أكلّف نفسي يومًا عناء الالتفات لمواء الجواري وصراع البائسات على بلاطك لأنني لم أنس يومًا شرف أن ألتزم الصّمت في حضرتك. بدوت كما لو أنّك لا تميّز ملامحي حدّ أن اضطررتَ لأن ترفع إصبعًا وتشير إلى قلبي كما لو كان ندبةً أو ذنبًا أو عمرًا تتساءل عن أجَله. وجدتني أعرف تلقائيًا كيف لمكلومة ليست مضطرّة لأن تبايعك مجددًا ولا أن تذكرك بأنك تبقى أنت الملك، أن ترمي يدها على صدرها وترتدّ واهنةً خلف الباب من دون أن تكون بحاجة لهزّة أخرى أو محاولة أشدّ صرامةً وغموضًا تتركها عند العتبة وتبقى واقفًا بشهامة وصدق، حريصًا ككلّ مرّة أن لا يمسّ بوجعها أحد.

لم أكن بحاجة أخرى بعد آخر ماكتبته لأن أتحدث لشخص يعرف كيف يحميني من دون أن يقطع ولو لمرّة صمتًا فرضه بعناد ثقيل.

أعرف فقط أن ذلك الخوف الذي انتفض بداخلي سيبقى مذهولًا يتساءل عمّن يعرفني حقّ المعرفة ويدرك وجودي، يحمل في يده عهدًا وولاءً وكلمةً لم تزلّ ولم تتراجع لمرّة.. إن كان بحاجة لأن يتأكد عن مدى معرفتي بالفرق بين السّم والترياق، وبين الموت والحياة، وبين الثابت والوهم، وبين الهدوء والصمت، وبين الشكّ واليقين، وبين الضّعف والقوّة، وبين الحقيقة التي لاتتبدّل ولا تغيب وأي خدعة متاحة، وبين اللاسبب وأي أسباب لا تغير من الواقع شيئًا سوى أنها تدفعه للصمت أو للبكاء أو الضحك من باب التسلية لا أكثر.

أحمل أسبابي الخاصّة وقناعتي وكلّ ماأحتفظ به لأن أكتفي من الوقوف في هذا المربع الرقمي. وأوصد على ذاكرة قلبي سلامًا وأمنًا من أي خوف، أو حاجة لجرعات متغيرة من الحديث، لديّ مايكفي من الحياة لأعيش به وله وعليه عمرًا يعرف أجله، ولديك ماحملته من أيام وأسباب لم تستطع يومًا أن تحول بينك وبين يقينك الذي تجده أشدّ وضوحًا في كلّ مرة تدرك فيها أن قلبك مازال على حقّ وأنني أبقى كما أنا.

ساءني من نفسي أنني نسيت أنك حين لم تكن بحاجة لقلبي نفسه تركته حيث أقف وبقيت تطوي الأيام على بعد خطوة لا أكثر غير أنّك أرخيت على اسمي صمتًا ثقيلًا. ربما هذا مايجعلك تبتسم أحيانًا حين تراني أقرأ اسمينا في عينيك وأشرد بعيني خوفًا من أن تلتمع اللهفة فيها فتتصرف كما لو كنت لا تقرأ إسمًا وحيدًا يوقد في عينيّ ضوءًا لاينطفئ، ولكنّه يرتبك في كلّ مرّة كما لو أنه يلتقط أنفاسه أمام ليل ليس كمثله ليل لا يسكن سوى عينيك.

أحاول أن أخدع نفسي بأنني لابدّ وأن أجد حاجة للحديث يومًا لكنني أعرف جيّدا أي صمت يكونه صمتي حين لا أتكلف عناء المحاولة. كلانا يعرف بأنني لم أكن بحاجة للمشورة يومًا بقدر ماكنت أعرف طريقي وأنا أذرع وحشة الكون وأكشّر في وجه خوفك وألوذ لشيء من السكينة والأمان وأنا أتخيلك تبتسم فقط في كل مرة طرقت الباب فيها هنا مهما طال انتظاري. كلانا يعرف أنني أحترم كلمتك قبل أيّ شيء، يؤلمني فقط كم بقيت أنتظر أيامًا وأشهرًا أن تمتدّ يدك بالسلام وكأنها نسيت أول السلام وأوّل العهد وأوّل يقين حين تركت فيها المفتاح الوحيد لبناية تحمل شقة وحيدة في الطابق العلويّ في أول مرة خرجنا فيها لقهوة وحديث طويل. كنت أبتسم يومها حين شعرت أنني آمنت على نفسي إلى الأبد من أيّ ضياع.

لم أكن بحاجة لأن أسامح أو أغفر شيئًا في أي مرة لأنني كنت أقبل كل شيء كما هو وأمتثل لكلّ ظرف من دون أن أراجعك، أو أحتاج سببًا أو رايةً لأقول بأنني أقف في صفّك. هذه المرّة أيضًا أنحاز لقدرك وأحتفظ بيدي على قلبي، أخاصم جرأتك وجفاء ردّك بهذا الصمت . من دون أن تكون مضطرًا لأن تمدّ إليّ نصيحةً أو تقرر ماإن كنت أريد أن أفهم أم لا.

تعرف جيّدا أنني سأبقى دومًا كما أنا، لست حتى بحاجة لأن أكتب دعاءً أو أقسم على معرفة بك تعيها جيدًا وتلمس قدرها عندي. أجدني بحاجة ماسة فعلًا لأن أدرأ عن نفسي عناء التبرير، والخوف من أن أن أُنعت بالرّياء، لم أتكلّف يومًا عناء الدفاىع عن قلبي لكنني هذه المرّة .. أمام يدك بحاجة حقيقيّة لأن أفعل. وحدك تدرك تمامًا أنها الوحيدة التي تعرف سرّ طفولتي وتشعل جنوني، وحدك تعرف أنها أول نقاط ضعفي وأنني لا أستطيع مع دفئها وقوتها وقوفًا ولا صبرًا. آسفة لأنني شعرت بالخوف من أن أقرأ ماكتبت فقط. لا أعرف أيّ كلمة تستطيع أن تتركها بهدوء وتبقى خائفًا من أن أسقط في نحيب طويل. أعرف حاجتي لأن أشكو لك من الدنيا بأسرها أو أن أتربع أمامك وأصغي بحبور لما لديك وكأن الدنيا لن تجرؤ على الاقتراب منّا طالما أنّك هنا، أعرف نظرتك التي تردّ على خوفي بسخرية تصيبه في مقتل، أعرف يدك نفسها التي كانت تشدّني وأنت تضحك من سخافاتي وثورتي، أعرفك أكثر مما أعرف نفسي وأعرف ماعرفته منك ومعك وعنك .. أعرف صوتك الذي يتخبّط بين ضلوعي حتى هذا اليوم وكأنّك تتحدّث إليّ من داخلي. أعرف ما لاأسمح للجدال فيه حدّ أن أشعر بالغضب والحزن كلما جرحتني محاولة لأن أشرحه أو أبرره.

كلّ مافي الأمر أنني .. لا أشتاق بل أموت لأيّام .. لصوت كترنيمة دفء..

لأغنية بصوت السّت نرددها .. (بعيد أنت) .. نتسابق من سيكملها أنا أم أنت ..

كن بخير . طابت أوقاتك .

ليس حزنًا، بل سرّا أزرق.

 

يبدو الأمر أقرب للمستحيل نوعًا ما، أن تحاول بشكل أو بآخر أن لاتسيء لأحد ممن حولك، أحيانًا يتطلب الأمر مجهودًا مضاعفًا خاصةً حين تكون مدركًا لطبيعة شخصيتك، ربما أحرص على أن أكون على أطراف أصابعي دومًا في تعاملي مع من هم حولي، أكثر مما أحرص على أن لا أمثل ابتسامةً ما في وجه أناس كثر من الصعب أن ينتبهوا لما يقولون عادةً، أملك شخصيةً سريعة التأثر لكنني في نفس الوقت أحمل – أو هكذا أدّعي- عقلًا واعيًا لاختلاف طبائع البشر وطرق تعاملهم حولي، مع ذلك أبقى دائمًا متمسكةً بيقين وحيد لم يخذلني حتى اليوم؛ قد نختلف كثيرًا في شخصياتنا وسلوكنا وحواراتنا ودوافعنا وغاياتنا، لكن يبقى دومًا مايجمعنا أكبر بكثير،

لديّ تحفظ كبير على قناعات – أمين معلوف – عن قيمة إرثنا العربيّ هويةً وثقافةً بعد تصرفاته الأخيرة التي أثارت جدلًا لوقت طويل ومازالت تشكّل حاجزًا أو ثيمةً معينةً تسمهُ عن غيره من الكتّاب، لكنني لا أنكر أنني مازلت حتى اليوم أتردد على كتابه (الهويات القاتلة) وأتفق معه في الكثير مما قاله فيه، لطالما آمنت أنّ للقلم قوّة وأثر أكبر مما نعيه أو نلمسه، وأنّ للكلمة وقعٌ وأثر حقيقيّ على أنفسنا وواقعنا .. ربما لهذا تبقى الكتابة جزءًا لا يتجزّأ مني ومصير لا أجد أمامه سبيلًا سوى الوصول مهما ابتعدت عنه أو هجرته عن عمدٍ أو بسبب انشغالي في التزامات كثيرة تفرضها عليّ طبيعة عملي واتجاهاتي فيها،

قد تبدو الفكرة مضحكةً بالنسبة لمن يقرأها في البداية إلا لو فكر بها قليلًا، أعني عن موضوع الهويات والقواسم التي تجمعنا، أعتقد أن أمين معلوف – مثلًا – يعتبر من أحد الكتّاب الذين أوقعوا أنفسهم في شرك ماكتبوه، ليس من باب انقلاب السّحر على الساحر، إنّما أعني أنّه أكسب نفسه بطريقةٍ أو بأخرى سمةً أو هويّة جديدةً تخصّه دون غيره في الوسط الأدبيّ بغض النظر عن نظرتنا لها،

صحيح أنّ من يقرأ كتاب (الهويات القاتلة) سيتفق مع أمين معلوف من حيث المبدأ، سيبتسم كثيرًا وسيقف معجبًا عند صفحات كثيرةٍ ويصفّق أيضًا، لكنّه سيشعر بالتأكيد ومنذ الفصل الأول أنّ أمين معلوف يدور حول فكرةٍ ما يحاول قولها بصراحة ولكنّه لا يجد سبيلًا لذلك،  فكرة أننا جميعًا نملك الحرّية المطلقة في التعبير عن هوياتنا وانتماءاتنا ونملك المساحة الكافية أيضًا لتقبّل مانراه شاذّا أو مغايرًا وخارجًا تماما عمّا ألِفناه وتوارثناه من حميّة تجاه مايجري في عروقنا ويمور في صدورنا ويغزو عقولنا من عقائد، وتضاربات وقناعات تبدو واضحةً تمامًا علينا باختلافاتها لمن ينظر إلينا من بعيد، ولكننا لانريد ذلك باختصار. حسنًا قد يكون كلامه صحيحًا نوعًا ما، الأمر الذي جعله يظنّ بأنه يملك إرثًا ومرافعةً أدبية قديمة خلفه تسمّى بكتاب (الهويات القاتلة) تكفي تمامًا لتصدّ عنه أي مساءلة أو استنكار وتمنحه عذرًا قد يكون في نظري أسوأ بكثير مما يحاول أن يقوله بيننا.

“نظرتنا هي التي غالبا ما تسجن الآخرين داخل انتماءاتهم الضيقة ، ونظرتنا كذلك هي التي تحررهم”* << هذا ماجاء في أحد الفصول الكتاب، أعتبر المبدأ صحيح بالطبع لكنّني أختلف كثيرًا مع تعريفه أو نظرته للضيق و السّعة في المقام الأول .. إضافةً إلى أنه نسي حذره الأول الذي بدأ به أوّل فصول الكتاب (لقد علّمتني حياة الكتابة أن أرتاب من الكلمات، فأكثرها شفافيّة غالبًا مايكون أكثرها خيانةً)*

هنا أصفق له بحرارةٍ فعلًا .. أكثر الكلمات التي نكتبها مصداقيةً وشفافيةً غالبًا مايكون أكثرها خيانةً، أدرك ذلك بنفسي عندما يحملني الفضول أو الحنين لأن أفتح أدراجًا وصناديقًا مليئةً بالمسودات والقصاصات المبتورة والعديد من الرسائل التي لم تصل، والتي لم تكتب لتصل أبدًا والتي لم يكن لها نصيب من الوصول فظلّت تحرسُ البرد وتلعنُ العتمة كأمل يائس في الخلاص وربّما خوفًا من يأسٍ لايمتّ لأبشع كوابيسها بصلة. الكثير من الكلمات وجدتها وكأنها تحولت لقدر أعيشه، وكأنني ألقيت على نفسي تعاويذ عديدةً غير مكتملة وبقيت أكتمُ وحشتها، أصرخ في وجه أشباحها، أنفثُ أسماء من أحبّهم ثلاثًا عن اليمين والشمال كلّ ليلةٍ اتقاءً لكوابيس تعرف كيف تتسلّل جيدًا وتبقى رابضةً في زوايا الصمت في انتظار أن أنام.

 

أكتبُ الآن من مكان مزويّ، بعيد جدًا عن بال الكثير ممّن أحبّهم، أحرسُ ذاكرتي من يدي، وأقبضها بقوّة أحاول أن تكون كافيةً لتضرب صدري كلّما باغتتني حرقة أو بُحّ في ذاكرتي شوق كسير أو لمع النّداء في عينيّ دمعًا لا أملك عليه قدرةً منذ وقت طويل، غير أني أمضيت وقتًا طويلًا في محاولة هزلية لترويضه ليس أكثر.

أفكّر فيما كانت ستكون عليه الأيام، ماكان ضرُّ الحياة لو أنّها برّت بعهودنا، أو ادعت أنها لاترانا، ماكان ضرّها لو تركتنا وأسبابنا، نجمع أفراحنا ونحرسُ قلوبنا من الوحشة ولو بشيء من حياة وأشياء من دفء وأمل كان يكفي تمامًا.. تمامًا لأن نرجو الأيام لأن تركض بنا لكلّ غد قسمنا له من الجنون نصيبًا وافرًا، ونلهث نحو الهواتف ونحن نتوسّل للزمن أن يتوقف تمامًا أو ينسانا في بضع دقائق كانت تكفي تمامًا لأن نغمض أعيننا بسلام من دون أن نضع احتمالًا أو نلتفت لمخاوفنا وأبشع كوابيسنا ولو من باب السخرية فقط.

أكتب الآن من هنا أول ماوجدته في يدي وبقيّة مما ادخرته في خابية روحٍ لا أجرؤ على الاقتراب من خزائنها، عرفت كيف يمكن أن أكون روحًا تهيمُ بخفّة، تركضُ حافيةً على بلاط الدهشة من دون خوف حتى تتربّع عند عرش الدفء، تخبّئ فرحتها عن ألسنة الجيران وأطفال الحيّ وتبتسم بامتنان في وجه الوقت .

27/3/2018

خلف الباب؛

🙂

ربّما لأنّني لم أعرف لي مأوى ولا أهل سواك أجدني أتصرّف كما لو كنتُ شخصًا آخر موكل بالتحدّث عنّي، بينما أحاول فعلًا أن أبتلع غصّة عالقةً في حلقي

يؤلمني صدقًا أن أجد نفسي مضطرّة لفعل ذلك وكأنّك لاتعرفني.. ربما لأنني أشعر بالفخر دومًا حين أخبرك عنك وكأنني أزهو أمامك بكَ، كأمّ يخفق قلبها طربًا أمام صورة تحمل أي لحظة زمنيّة كانت لطفلها، لايهمّها من سيراها يومًا.. أو من سيحدثه عن ملامحه فيها.. لكنّها بالتأكيد لن تفوّت على نفسها فرصة أن تضمّه في حجرها وتحدّثه عنه، تشيرُ لتفاصيل معيّنة، تثير دهشته، تلوّن حديثها بضجّة لطيفة من الذهول، تنقل أصابعها على الصورة بعشوائية وارتباك تحاول أن تواريه باتزان زائف .. وكأنّها تريده أن يفهم ببساطة بأنها ستبقى حائرةً دومًا ولاتعرف طريقةً حقيقيّة تُريه بنفسه كم يبدو جميلًا ببساطة .

كنت أعرف منذ اللحظة الأولى لي في هذه المدينة أنّني سأعيشُ هذه الأيام بلاشكّ، أجل تستطيع أن تعتبر صمتي ليس أكثر من نظرة واجمة، أو جمود بارد وبلا أيّ تعبير أمام لقطة أو لحظة متوقعة!

منذ أكثر من عامين وأنا أحاول بيأس أن أقي نفسي مغبّة السقوط في شرك أيام كهذه الأيام الأخيرة من أسبوع تقريبًا، تمامًا منذ أوّل حلم رأيته فيك.

حسنًا تحدثت كثيرًا عن هذا الأمر لكن يبدو حتى الآن أنني لاأملك دليلًا أو كلمةً أخرى سوى ماأراه فعلًا، ربّما ازدادت كثافة رؤاي منذ ذلك الاتصال فعلًا، لكنّني كنت دائمًا ماأدفع الجميع للحظة دهشة حقيقية، لابدّ وأن تتخذ نكهة ذهول عميق يبلغ مداه حدّ أن يكون خوفًا أو ريبةً واستغرابًا أو صمتًا ثقيلًا لطالما امتلأ بالتسبيح أو ترديد اسم الله لاأكثر. مشهد متكرر بمختلف الظروف يجعلني كثيرًا ما أشعر برغبة في الضّحك لاأكثر.

كان خطأي أنني لم أخبرك عمّا عليك أن تعرفه عنّي أنا، خفت دومًا من أن ألفت انتباهك أو أشرح الفكرة بوضوح خوفًا من أن تحسب أنني محض فتاة تريد أن تنتهز حقيقةً أو فرصةً متاحةً لتحجز لنفسها مقعدًا في أيّ صفّ كان من كلّ غد أنتظره معك، كان هذا أوّل الأسباب التي جعلتني أحمل حيرةً ووجعًا أكبر طيلة هذه الأشهر لأنني لاأستطيع أن أخبرك عمّا أراه، كيف لي أن أشرح لك الأمر، وأيّ سبب يمكنني أن أدعيه لأقصّ عليك رؤيةً أو منامًا ما، لكنّني حتى اليوم لاأعرف كيف أجد طريقةً أشكر الله فيها صدقًا.. إذ أنّ أوّل من حدثتك عن رؤيته فيك قبل هذا الاتصال وبعده كان سيّد الخلق وآله صلوات ربّي وسلامه عليهم.

بالمناسبة.. لم يكن الرسول فقط من رأيته فيك من آل البيت، كان أول من رأيته عينًا وبصورته وهيئته هي حفيدته زينب التي تسمّى بالعقيلة (ابنة السيّدة فاطمة) كان هذا في أوّل خصومة حقيقيّة وقعت بيننا حين كنت في الخبر، تخيّل! 🙂

هذا مايدهشني أنا نفسي حتى هذا اليوم ولاأعرف حقّا ماهو السبب الحقيقيّ أو الفكرة التي يجب أن أفهمها من رؤية آل البيت على وجه الخصوص وكثير من الأنبياء وسيرهم فيك أنت فقط، بينما بقيّة رؤاي تكون صادقةً وأراها وأعايشها بنفسي أيضًا في أي شيء آخر، لكن فيك أنت صدقني لاأعرف السبب، بالذات في كلّ شجار أو خصومة.

منذ أكثر من عام، كانت المرّة الأولى التي رأيت فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشخصه الكريم والسيّدة عائشة بجانبه ونحن أمام الحرم النبويّ. كانت ذلك حين تعاقدت مع المركز وبقيت أنتظر استكمال الأوراق الرسمية، وطال الأمر لدرجة أربكتنا وأوقعتني في رعب حقيقي من أن أجبر على العودة وأفقد نعمة وجودي معك فقط، شعرت بقهر حقيقيّ وغضبت بطيش اعتدته عليّ في شجار حقيقيّ وقع بيننا يومها، كنت غاضبةً من تراكم كل الأحداث معًا ولاأفهم كيف استطعت أن تقسو عليّ في الوقت الذي أحاول البحث فيه بيأس عن كل سبيل يبقيني معك، بكيت كثيرًا، ورأيته بعدما نمت .. كان يبتسم مستبشرًا، لاتعلم كم أدعو الله وأتمنّى لك من قلبي أن تراه، لالشيء سوى محض عاطفة حقيقية وسلام يبقى كما هو كلما تذكرت ملامحه وابتسامته، أودّ لو تراها حقّا لتفهم ماأشعر به بنفسك، شيء ما يرخي على قلبك سكينةً ورضىً لاتفهمه بل تعيشه لاأكثر. كانت تلك أول مرة فهمت فيها من كلامه الذي قاله ومن وجود السيّدة عائشة أنني سأعيش هذه الأيام بلاشكّ.

طيلة العام كنت أرى منامات أخرى أيضًا ولاأجرؤ على إخبارك بها،.

دعك من هذا ..

رؤية الرسول التي أخبرتك عنها بعد ذلك الاتصال كانت الثانية حتى الآن في حياتي، يومها أيضًا كانت السيدة عائشة تجلس معي مهمومةً بينما كان الرسول واقفًا يدافع عنّا.. أنت وأنا، هذه هي الحقيقة التي لم أخبرك بها بوضوح لأنني خفت وربما خجلت لاأكثر، حتى أنني لاأكتب لك هذا الكلام لسبب معيّن، أريدك أن تعرف وحسب، كنت أنادي عليك وأبكي يومها، وكنت تنظر إلي أيضًا وتبكي بصمت، تضع يدك على فمك قليلًا وكأنك لاتصدق ماحدث! كان سؤالي الوحيد يومها (الله يسامحك ياعبدالله ليش ماقلت لي كنت بساعدك) .. دعك مما قلته أنت لأنني أعرفك جيدًا وأعرف أسبابك وأتعامل معك بناءً عليها باختصار. ماأريد أن أخبرك به هو أنني يومها عرفت بأنّك تعاني من مشكلة ما كنت تحاول أن تجد لها حلّا، لكنّك أبقيت الأمر سرّا بينك وبين نفسك من دون أن تخبر أحدًا بذلك، كتمت وجعًا ثقيلًا واحتفظت به لنفسك.. هذا أكثر مايغضبني ويجرحني منك، تتصرف وكأنك لاتريد لأحد أن يعرف بأنك تحاول أن تحلّ أمرًا ما، وكأنه من العيب أن يعرف أحد عنك ذلك، أتفهم هذا بالطبع لكنني أغضب وأشعر بحزن حقيقي حين أجد نفسي أشارك الجميع هذه الحيرة وهذا الإقصاء، أودّ حينها لو أصرخ فيك لأخبرك أن لاشأن لي بأي أحد لأنني أولى بمشاركتك في هذا الأمر حتى وإن لم أكن أملك حلّا، أستطيع على الأقل أن أعدك بأن كل شيء سيكون على مايرام، أو أخصص دعائي كأضعف الإيمان لهذا الأمر، وأبحث عن كل سبيل يمكن أن يساعدك!

كنت أعرف أن المشكلة في أمر متعلق بأحد المجالين إما عملك أو تعليمك، لأسباب كثيرة ستكون سردية لو ذكرتها هنا لكنك تفهمها من أحداث الرؤية وتفسيرها.

عرفت أيضًا أن لوجود السيدة عائشة سبب أكبر وعلامة يجب أن أتقبّل أمر حدوثها، لاتعكس السيدة عائشة في المنامات رسالة أو فكرة عن أن عليك أن تصبر فقط، ولاعن حبّها لحبيبها المصطفى، وحدتها معي أفهمتني بأنني سأعيش أيامًا طويلةً من الحزن والعتمة وحدي، مدانة أو متهمة بكلام وأقاويل ملفّقة، وقصصا لم تحدث لاأعرف مصدرها ولكنني سأجد نفسي مجروحة بعد صمت ثقيل حدّ أن أضطر لأن أخلو بنفسي في وحدة تامّة.

لاأعرف مدى معرفتك بحادثة الإفك، لكنني أستطيع أن أؤكد لك ماشعرت به عائشة تماما مذ أحسن بتغيّر الرسول تجاهها قبل أن يواجهها أو يخبرها بأي كلام سمعه، تجد نفسك تبتسم معها بحسرة حين تقرأ ماقالته عن نفسها، كيف عاشت شهرًا كاملًا لايقف لها دمع ولاتعرف ماالذي غيّره تجاهها، لم يبتعد أبدًا، لم يهجرها، غير أنه كان فيما قبل معتادًا أن يسألها بشوق حين يدخل عليها (كيف حال عويش).. فجأة صار يسألها بشكل عاديّ تماما (كيف تيكُم)؟

كانت حيرة الرسول نفسه وموقفه طبيعيّا، لأن الله وضعه في اختبار حقيقي أمام نفسه كإنسان بكلّ بساطة، كان من الممكن بكلّ بساطة أن يتنزّل وحي قبل الحادثة، أو يومها أو بعد ماوصله من أقاويل .. ليعرف أن الحقيقة مجرّد افتراء لاأكثر، لكن كان عليه أن يقضي صبرًا ووقتًا مع نفسه كإنسان عاديّ في موقف كهذا، حتى وجد نفسه بعد صمت وانتظار لوحي يريحه أو يدلّه.. يستشير عليّ رضي الله عنه، وكان هو من أشار عليه بأن يخبر عائشة بأمر ماسمعه..

أستطيع مجددًا أن أخبرك بثقة عن جانب واحد لايمكن أن أشكّ فيه أو أهمله من السبب الذي دفعها تشعر بجرح حقيقيّ حين حدثها في الأمر.. مع أنه تكلم معها بشكل عادي وبمنتهى الصدق ومن دون أي إدانة أو شكّ أو اتهام، محض سرد ونصيحة لاأكثر. وكان هذا هو ماجرحها.. أنه وقف أمامها كنبيّ يهدي وينصح ويتساءل.. نبيّ كريم وصادق فعلًا لكن ليس محمّدًا الذي بكت عليه طيلة تلك الأيام

كان ردّها الوحيد أنها استأذنت منه أن ترجع إلى بيت أهلها حتى يحكم له الله في أمرها ويثبت براءتها فقط.

حسنًا دعنا من قدسية الشخصيات نفسها، لكنّك تلمس الطبيعة البشرية وشعور الإنسان الغالب على كل فرد فيهم وأنت تقرأ الحدث، لم تكن عائشة تحاول أن تدافع عن نفسها ولم تفكر في ذلك، لكنها أجابت بحيادية وأمانة تامّة،

حين رجعت لبيت أهلها، تصرّف الرسول كزوج شهم وأمين في المقام الأول، وصديق يحترم الصديق وابنته وبيته، لذا جلس أمام الصّديق وزوجته وعائشة وكرّر عليها ماقاله بالنّص ومانصحه ذاته عن التوبة من الذنب وأثرها. كانت بحاجة لأن تشعر بأنها ابنة عادية لأهل يعرفونها تمام المعرفة حدّ أن يملكوا جوابًا أو ردًا ثابتًا على ماسمعه الرسول. وجدت نفسها تلتفت لكل واحد من أبويها وتسأله عما سيردّ به على كلام الرسول. كان الجواب صمتًا بالطبع امتثالًا واحترامًا وحيرةً بالتأكيد أمام ثقل الفكرة نفسها وهيبة الرسول وكلامه ومصداقيته وحضوره. لم تكن بحاجة لأن تخبرهم بأنها تفهم صمتهم وأسبابه تمامًا، ربّما أرادت أن ينتبه أحد فقط لمحض ابنة عادية تجلس أمام هيئة تحقيق بطريقة أو بأخرى، ترى الصورة كاملة من كلّ الزوايا ولكنّها تحاول أن تقول فقط بأنّها الآن في لحظة لاتهتم ولاوقت لديها لأي أسباب بل لكلمة حقّ لو نظر كلّ واحد منهم في داخله أو نظر إليها جيّدًا لوجدها بوضوح تام.

لذا كان ردها ببساطة أنها في كلا الحالتين سواء اعترفت بشيء لم تفعله وأعلنت توبتها، أم أنكرت أي صلة بما قيل تمامًا فلن يصدقوها على أيّ حال وإلا لما سألوها منذ البداية!

وقتها أسلمت نفسها للمرض فعلًا، وانصرفت في وحدتها، حتى نزلت آية البراءة على الرسول وهرع ليبشّرهم،

أضحك لها من كل قلبي وكأنني أربت على كتفها حين أقف على اللحظة التي تسألها أمها فرحةً بنبأ البراءة ووجود الرسول عندهم مجددًا (ألاتشكريه؟) قالت ببساطة لا بل تحمد الله فقط أن برأها مع أنها لم تتخيل يومًا أنها ذات شأن يمكن أن يبلغ حدّ أن ينزل الله آية كاملة تبقى قرآنا يتلى تبرئها وتشهد لها حتى يوم البعث. أما الرسول فلن تضلّ عن حنان الرجل في ابتسامته التي قابلها بها، رجل يعرفها ويبتسم بتفهم لاأكثر، يدرك ألمها ويعيه من دون أن يفكر إن كانت تتفهّم موقفه أم لا لأنه يعرف أي حبّ جمعه بها وأي مسؤولية قاسمته إياها وأيّ سرّ ونبوّة حفظتها معه ومنه. وأي يقين تعلمته وعاشته واختبأت في دفئه معه.. ابتسامة دافئة فقط قابلها بها كانت تكفي لأن تخبرها أنه يفهم تمامًا ويدرك تمامًا ويعرف أنّها لابدّ وأنها تفهّمت موقفه ودوافعه وأسبابه أيضًا، ولكنّ محبّا وعاشقًا لم يتراجع في قلبه للحظة كان يودّ فقط لو يمكنها أن تكون هيَ الآن فقط بكلّ بساطة أو لو تستطيع أن تكون أقلّ تصلّبًا. وحدها تنظر بصمت وكأنها الوحيدة التي تعي جيدًا أن المسألة لاتتعلّق أبدًا بقدرتها على العناد أم لا.. بل بحقيقة أنّ هناك قلبًا يرتجف ولعًا وحبّا ولكنّها وحدها التي تعرف أنّه لايقوى على عنادها ولايجد مع صمتها حيلة ولايستطيع أمام حزنها صمتًا ولاصبرًا.

ربما لايتجاوز الكلام فكرة كونه محض سرد لديك.. عنّي أحاول فقط أن أسألك وشيء مابداخلي يرجو أن تجيب، أن تفعلها ولو لمرّة وتخبرني إن كنت بخير هذه الأيام حقّا أم لا، وإن كان يمكنك ولو لمرّة أن تجيب بحيادية مباشرة تمامًا عن أي شيء تحتاجه أو يمكن أن يُسدى إليك أو يمكنني أن أفعله أو أقدمه من دون أن تفكّر في شيء أو تتردد أمام شيء أو تخاف من شيء أو تلتزم الصمت ككلّ مرّة ..

كلانا يعرف أنه لايمكن أن يكون صمتك لسبب أنك لم تجد ردّا في كلّ مرّة أو أنك ازددت حيرة أو خوفًا.. كلانا يعرف أنك كنت ومازلت تستطيع أن تكسر حاجز الصمت وتحسم تساؤلاتك في لحظة..

أسألك إن كنت بخير أو بحاجة لأيّ شيء ليس بسبب الصمت الثقيل هذا بل لأسباب كثيرة تخصّني.. منها أيضًا حلم رأيته وحدثتك عنه عن تلك الفتاة من الاستقبال:)

منذ ذلك اليوم وأنا أحاول أن أعرف أيّ حقّ يمكن أن يكون لك عندها؟ أو عند أي أحد غيرها.. منذ ذلك اليوم وأنا أزداد خوفًا ورجاءً أن لاأعرف من أحد سواء إن كان ثمّة أي شيء يمكن أن يكون أحزنك لاسمح الله. أو جعلك تشعر بالذنب للحظة. لهذا كنت أحاول طوال الوقت أن أثبت لك أنّك بريء من أي ذنب تجاهي.. ليس لأن الحبّ نفسه لايعدّ وزرًا ولاحملًا أبدًا بل سببًا أدعى للبقاء والثبات واليقين والقوّة أكثر في كلّ مرّة فقط، بل لأنني لاأحتمل فكرة أنّك تدين نفسك وتحمّل نفسك وزرًا وذنبًا ومسؤولية تجاه شيء لم يعد على غيرك بأي مضرّة بل بنفع وحياة واكتفاء لايمكنك أن تتخيله.

تعرفني جيّدا.. هذه المرة لاأعد ولاأطلب أن تضع في حسبانك أو تبقي على أي فكرة في رأسك. أريدك أن تعرف أن ماأحاول أن أقوله بهدوء.. أنني هنا باختصار.. في أي وقت ناديتني ستجد عند الباب قلبًا يتيمًا يرتجف منذ وقت طويل، يبكي وحيدًا وينتظر أن تحمله بين يديك ليغفو في سلام لأول مرة منذ زمن بعيد. أما أنا فتعرف جيّدا أنك أينما استدرت أو التفت أو ناديت ستجدني أقف أينما قلّبت طرفك، عليك فقط أن تنظر بداخلك ولو للحظة إن كنت تفكر أن تفتّش عني.

لايؤلمني أي غضب ولاحزن ولاوهن أبدًا .. أحاول فقط أن أجد طريقة فعلًا لأفهم وأستوعب ولو بشيء من الوضوح فكرة أن كلّ هذه الأشهر مرّت بكلّ هذا الصمت!

أحاول فعلًا أن أفهم لا أن أصدّق أنّك استطعت أن تصمت، أنك تمكنت من العناد والتمسك برأيك حتى تقرر أو لاتقرر عكس ذلك طوال هذا الوقت!

أحاول فعلًا أن أسامحك وأنا أنظر لكلّ هذا الصّمت، وأقف عند مرات كثيرة لاتحصى كنت تزيح فيها غطاء هذا المربع الرقمي.. تنظر طويلًا حتى آخر كلمة من دون أن تترك ردّا أو جوابًا..

أراك أمامي بوضوح، أجدك معي دومًا بل أحفظك سرّا بداخلي، غير أنني صرت أنظر إليك وأنا أرى كلّ ذلك الصمت.. أحاول أن أسامحك وأتمنّى ذلك فعلًا أجدني أبكي بحرقة لساعات طويلة أدعو لك كثيرًا وأتوسّل إلى الله أن يسامحك ويحنو عليك ويحفظك، أرجوه بصدق.. أحاول أن أخبرك أنني أودّ أن أسامحك ولكنني هذه المرّة لاأعرف كيف لي أن أفعل.

وجدتني أدعوه باستسلام أن يسامحك نيابةً عنّي أيضًا من دون أن أجد نفسي مضطرة لقول ذلك. أخاف عليك من أي عذاب أو خوف أو صمت وأحاول فقط أن أفهم كيف كان لي أبقى فيه كل هذا الوقت أمامك هكذا بمنتهى البساطة؟

أعرف أنني أسامحك في داخلي ولكنني أدعي عكس ذلك.. ربما لهذا السبب أردت أن أبكي وحدي هذه المرّة، أريد أن أبكي كلّ شيء، كل الكلام الذي انتظرته وتمنيت وأتمنى أن تقوله، كل اللحظات التي انتظرت وأنتظر أن تضمّني فيها بقوّة وكأنك تسخر من سخافتي وخوفي من لحظة غضب، كل اللحظات التي انتظرت وأنتظر أن تحميني فيها من كل خوف وتدفعني لأن أشكو لك كل شيء.. كل شيء بينما تمسّد شعري وتبتسم بحنان، كل الأيام التي حرمت من أيّ لحظة منها معك..

وكل لحظة من يوم مولدك.. أجل، هذا اليوم سيبقى غصّةً في حلقي لن أتمكٌن من ابتلاعها، لن أعي للحظة فكرة أنني لم أقاسمك أيّ لحظة منه معك..

أذكر أحداثه في العام الماضي، وكلّ مافعلته من وقتها وحتى عاد في هذا العام لأعيش ولو لحظةً منه معك..

أحاول أن أتجاوز أو أتقبّل الفكرة صدقًا لكنني أنتحب بقوّة كلما تذكرت جلوسك وحيدًا في الرياض ووجعي هنا، كيف استطعت أن تكمل يومًا كاملًا كهذا حتى انتهى فعلًا!؟

تطول الأيام يومًا تلو آخر وتزداد ملامحك بداخلي وضوحًا وليس العكس أبدًا.. يرهقني يومًا تلو آخر أن الأيام ماتزال تمضي وأنت في هذا البعد عنيد متمسّك بمحض فكرة اتخذتها بمفردك، يقتلني يأسي وضعفي وصمتي.. ولاأفعل شيئًا سوى أنني أعود للبكاء كحلّ وحيد. كما لو أنني أريد أن أبكي وألفظ كلّ هذا الصمت من داخلي، لأبكي بجواره حتى أنتهي إلى أبد لايردّ . أتخيل الفكرة للحظة فأنتفض هلعًا من أن يمسّك أي خوف ولاأكون هنا لأضمك بقوة وأعدك بأن كلّ شيء على مايرام، وأن كلّ ماكان ليس سوى كابوس ومحض هراء.. وانقضى

أجدني أقضي بكاءً طويلًا لم يحملني لأي شيء أبعد من الصمت.

محض سلام

؛

مشكلتك أنّك لم تكُن أعند من أن تصدّق يومًا.. بل أعند من أن تنظُر فتجد في كلّ مرّة أن قلبك مازال محقًا.. لهذا عدت مجددًا لعادة سيئة تعاودُك كلّما أحسست بأنّك جُرحت أو جُررت لخدعة ما، عادة أن تمدّ يدًا محسنةً بمحض تساؤل أو نصيحة تحسبُ أن من حقّك أن تسديها، ولو من باب اللباقة أو الحرص لا أكثر، تقف بنُبل صارم لا يفاوضه خوف أو تردد، تقرّر فجأةً أنّ من واجبك أن تكون محايدًا، وتتحدّث بصيغة مموّهة كرجل كلاسيكيّ من الطراز الرفيع.

تنسى في كلّ مرّة أن أوّل ماعليك أن تضعه في حساباتك هو معرفة من تخاطبهم بك، وهذا مايوقعك دومًا في مأزق حقيقيّ، تنسى أن الطبيعة تبقى أقوى لذا ستبقى هي الغالبة دومًا، طوال الأعوام والأيام التي جمعتنا عشت مواقف كثيرةً أجاهد نفسي أن لا أمدّ يدي ببساطة وأضمّك بقوة فقط لأقول لك (حسنًا حسنًا .. توقّف عن الادّعاء، ليس هناك أيّ سبب لخوفك نحن هنا معًا وكلّ مايخيفك محضُ وهمٍ زائل) .. لكنّك تختار أن تحتفظ بمخاوفك وحيرتك لنفسك وكأنّك تقع فجأةً مع نفسك في لحظة لوم مانزل بها أيّ سلطان ولم تأت بها أيّ آية من ملل الخلق والأديان مذ صوّر الله من الطّين جسدًا ونفخ فيه من روحه فصار بشرًا، و بُعثَ نبيّا، ورسُولًا، وخليفةً، ومذنبًا، وتائهًا، وخائفًا، ومخطئًا، ومشتاقًا، وإنسانًا في كلّ مرّة ..

تلوم نفسك حين تجد نفسك ممسكًا بيد تشدّ على يدك وتحترم أسوار قلبك حدّ أن لا تكترث في كلّ مرة تتحسس طريقها بأيّ شيء قد ينالها وهي تتسلّق صمتًا طويلًا وعنادًا أشرس من أن يواجه بغير الحنان، تختار أن تنصرف لصمتك وتجرد نفسك في وحدتك، لكنّك في داخلك تكون مدركًا أن لست سوى ضحية وهم تختار بوسطيّة ورصانة أن تتكئ عليه قليلًا لتراجع حساباتك وتعيد ترتيب أوراقك، تضع لنفسك التفاتات منتظمة تنهرُ بها خوفك وتؤكد لنفسك بطريقة أو بأخرى أن كلّ شيء على مايرام.. تكره العشوائية بشكل عام، وبالطّبع لاتمقت شيئًا أكثر مما تمقت القيود، لم يكن عندي أي مشكلة مع كلّ هذا يومًا بل على العكس تمامًا، بدليل أنني مازلت أقطع المسافات نحوّك في كلّ مرّة وأمدّ أوراقًا ومسائل شائكة أو محض مخاوف زائفة أو محض شوق مغموس في ثرثرات وحيرة تستنزفُ صبري حقّا بينما أصرّ على أسناني غيظًا وأبقي يدي بجانبي مقبوضةً بجهد كبير في كلّ مرّة كي لا أسدد لك لكمةً من دون أن أكترث بما ستعوده عليّ من عقوبةٍ أو غضب أو دهشة حقيقيّة تعتريك فجأةً ولاتستطيع تزييفها أبدًا تدفعني دومًا لأن أجاهد أن لا أنفجر ضحكًا ببساطة لأنني أعرف جيّدا كم يغضبك أن أرى الطفل الذي بداخلك وأقدّسه في الوقت الذي تحسب أنّك أخفيته جيّدًا خلف قناع من المنطقية والصلابة.

كنتَ أعند من أن تنظر فقط طوال هذه الأيام والأشهر لا أكثر، كان يغيظك في كلّ مرّة أن تلتفت فتجد أن قلبك مايزال محقّا وكأن القدر لم يتصرّف في ذلك الأمر بعد، قليل الصّبر وأعند من أن تصدّق أن لقلبك كلّ هذه الغلبة فعلًا، الأنكى أنني شعرت للحظة وكأنك تريد منّي أن أثبت لك أنني سأملّ ذات يومٍ وأتراجع أو ألتفت غضبًا أو كرهًا! شعرت للحظة أنّك وضعتني في موضع رهان مع نفسك أنني لابدّ وأن أفعل ماقد تفعله أيّ أخرى ذات يوم، مع أنّك أكثر من أدرك بنفسه أنني لست سواي فقط،

كان مهينًا بالنسبة لي أن أجد نفسي مضطرة لأن أبرّر تمسّكي بشيء بريء لم أصدّق أنني وجدته في داخلي حتى اليوم، مضطرّة لأن أمدّ يدي في كلّ مرة خوفًا من أن تكون يدك تحاول أن تمتد باستغراب أو صمت لسماء مازالت تتسع بداخلي، تبتسم لها وينتشر الدفء في قلبك، تمسح بيدك على رأسي فيقشعر جنوني ويرتجف خجلي، تفهم هذا لكنك تتصرف فجأةً كما لوكنت لاتفهم كيف لي أن أجرؤ أن تكون كلّ لحظة معك ولأجلك وفي ظلّك حياةً وخلدًا أحفظه لي سرّا لم أدافع عنه ولم أكلّف نفسي عناء الحرص على حفظه لأنني تحديت الكون منذ البداية بغرور أنثوي لاأكثر أن يعلم أحد سرّ ثباتي وجنوني سواك. في لحظة واحدة جعلت نفسك مجرمًا تريد أن تحميني من شرّه، لكنّك كنت محض رجُل شهم بكلّ بساطة .. شيءٌ ما مُسّ في غروره.. لذا لم يكن منك سوى أنّك وبمنتهى النّبل حسمت أمرك وانحنيت باحترام لمشهد أخير والتفت بصمت.. من دون أن تخطو أي خطوةٍ أبعد !

حتى أنا لا أصدّق أنني لأوّل مرّة فعلًا أقف بنفسي على أوّل غضبة لي منك، لكن مايجرحني هو أن غضبتي لك لا عليك. جارحٌ بل مهين بحق أن أشعر للحظة أنك لا تفهم كيف مازلت أجرؤ على الاكتفاء بك أكثر. وجدتني فجأةً أضع يدي على قلبي خوفًا عليك لا منك وأقف خلف الباب مهزومة تمامًا. صرت أريد أن أصرخ في وجهك كما أجد نفسي أوشك أن أفعل أمام الكثير ممّن التفتّ عنهم وأخرجتهم من حياتي تمامًا. لكنني لم أكلّف نفسي يومًا عناء ذلك أبدًا. كنت دائمًا ألتزم الصمت وأمضي بك. لايهمّ إليك أو إلى أين المهم أنّك تبقى هنا دومًا.

أحترم قناعتك عن الحبّ نفسه منذ اللحظة الأولى في لقاءنا، كنت ومازلت سعيدةً بالمناسبة، حتى في كلّ المرات التي كنت أسألك عمّا يميزني عن غيري فيها كنت أحتفظ بسرّ سخيف لي وحدي، كنت دومًا سعيدةً بل فخورةً بأنني كما لو كنت طفلتك الوحيدة، المضغة التي ارتجفت بين يديك لأوّل مرّة، وعرفت كلّ معنى لأول مرة من كلّ حياة، كنت دائمًا ماأغيظ نفسي بأن كلّ شيء معك يبقى محتفظًا بنكهة المرّة الأولى ودهشتها من دون أن ينسينا لحظةً من ذاكرة دفء ظلّ يلفّنا عمرًا طويلًا.. وبقيت أمدّ يدي للسماء أشهرًا أتوسّل أن تفتح بابًا لمعجزة ما.

فقدت الرغبة بالحديث منذ وقت طويل بالمناسبة. لا أتحدث مع أحد إلا لممًا. لأنني لا أجد طعمًا للحديث. لكنني مازلت أنا حين أتحدث أو أناقش أو أترافع عن شيء. كل مافي الأمر أنه لايعنيني كثيرًا أن يكون لي نصيب من الحديث بعد ذلك اليوم. مرت أيام طويلة كنت أجلس فيها مزوية في المقعد الخلفيّ لأي سيارة أجرة أمام كورنيش الدمام .. لا أتمكن حتى اليوم من النظر لأكثر من خمس دقائق حتى أطلب من السائق أن يعيدني بسرعة من حيث أتيت. لا أشاهد شيئًا ولا أتابع خبرًا ولا ألتفت لكثير من أشياء اعتدت ممارستها وحدي. لم يكن جرحًا ولا وحشةً. كان كسرًا حقيقيًا أمام عقوبة صمت وجدتني أقضيها يومًا تلو آخر من دون أن أتمكن من إثارة شفقتك.

صدمتي الحقيقية حين وجدت نفسي بحاجة لأن أحدثك عنك، أو لأخبرك ماأعرفه لأبرر وجودي وكأنني بحاجة لأن أخبرك بأنني أدرك تمامًا أنك لم تبتعد لكنك امتنعت عن الحديث معي فقط. عشت أشهرًا طويلةً أتخبّط من فكرة لأخرى ومن ظنّ لآخر. من دون أن يهتزّ كبرياؤك وقدرك بداخلي بل كان يعلو، كنت أخفيه عنك غضبًا، وأحيانًا خوفًا وكثيرًا مايكون خجلًا لا أكثر. كنت صادقة حين أخبرتك أنني أقسمت أن لا أخبرك عن أي شيء عانيته وعاصرته طوال هذه المدّة لأنني أشعر دومًا أن من واجبي أن أحميك من الخوف قبل أي شيء آخر. لكنني وقفت أمام نفسي حقّا في لحظة صمت طويلة لأول مرة حين سألتني بكل بساطة (إلى متى ستبقين هكذا). لا أعلم بالضبط عدد الصفعات التي تلقيتها في حياتي لم أجد وقتًا حتى اليوم لأحصي جراحًا أو أتتبع خيبةً، لكنّ هذه كانت الأقوى فعلًا. عدت في لحظة للحظة التي وقفت فيها أمامك في جمعية الثقافة والفنون بعد أسبوعين من ذلك الاتصال. كدت أصرخ في وجهك لكنني امتثلت لسلطتك لا أكثر. كنت أرتوي من شيء يقفز من عينيك. بريق رأيته وحدي. وكأنني اكتفيت به ومضيت بصمت من دون أن أجرؤ على تجاوز كلمة امتثلت لها أمامك. أما عن ذلك الاتصال .. صدقني أنا نفسي لا أدري ما الذي منعني من أن أنطق الكلمة الوحيدة التي لمعت في رأسي طوال الوقت حدّ أنني لم أنتبه لما دار بالضبط. شيء ما بداخلي كان يدفعني لأن أقول لك بأنك كاذب لا أكثر. لكن دهشتي الحقيقية كانت أمام هيبتك التي لم تفقد يومًا أثرها عليّ.. شيء ما في صوتك ألجمني تمامًا حتى هذا اليوم. منذ تلك اللحظة وجدتني أبحث في كل لحظة معك عن كلّ جرم يمكن أن يكون سببًا.

أحيانًا كثيرةً أجدني أقف بصمت أمام السماء من دون أن أتكلم، قضيت وقتًا طويلًا أسأل الله إن كان صوتي يصل لك أم لا، ومرّت أوقات أطول وأنا أرجوه أن يجعلك تتصل بي فقط، كنت كلّ مرّة أزداد صمتًا فقط، وأعود لأعده بأنني سأحسن التصرف في الغد فقط أريده أن يعدني بأن تبقى بخير. وفي كلّ مرّة أعد نفسي بأنني لن أخبرك عن أي شيء مما مرّ بي، سأبتسم لك وأضحك كما كنا نفعل دومًا وكأن شيئًا لم يكن. وكأنّ زمنًا لم يمرّ ولا أي غربة عرفتنا أبدًا. في كلّ مرة أجد نفسي أشاركك الطريق فقط حتى تقرر أنت الكلام.. أربّت عليك خلسةً. وأبتسم لك سرًا. وأعدك بأن كل شيء سيكون على مايرام .. لا أعرف حقّا ماالذي كان يدفعك في كلّ مرّة لأن تعيد محاولة أشدّ عنفًا وصرامةً، وتعود مغتاظًا حين تجدني كما أنا. بل أشدّ ثباتًا.

أعرف عن الصّمت أكثر مما يمكن لك أن تتخيّل ياسيدي الكريم. عشته عمرًا وأعرف جرأتي على الالتزام فيه أعمارًا أخر. ذات مرّة حين كنّا في (د.كيف) أخبرتني أنني أملك نوعًا معينًا من التفكير والحساسية. شخصية تستطيع البقاء قوية لوقت غير مسمّى لكنها في لحظة واحدة ومن دون تفكير. تتخذ قرارًا حاسمًا في الخروج من الحياة تمامًا. حسنًا من يومها وأنا أريد فقط أن أخبرك أنني بطبيعتي إنسانة مرنة لا أكثر. أتفهم من يندفعون للانتحار يأسًا أو اكتفاءً. أحترم قرارهم أكثر مما أترافع عنه لسبب واحد فقط، قناعتي الشخصية بأننا نبقى بشرًا طوال الوقت، لاشيء، لا ظرف ثابت يحكمنا، لسنا منساقين بالتأكيد ولكننا لابدّ وأن نفقد السيطرة ذات يوم، كلّ مافي الأمر أن أحدًا منّا لم يعرف بعد ولم يصل لمرحلة اليقين التام من أن لا شيء يعني الاستمرارية هنا أكثر من ذلك. لذا لا أجد نفسي أجرؤ على أقضي بحكم أو أصف شخصًا قرر أو اضطر للرحيل بأي طريقة يسمونها انتحارًا بأي وصف أو حكم كان. لأنني لم أقف حيث وقف لأعرف أو أرى ما رآه بنفسه. النفس البشرية عالم رحب بالأكوان والأبعاد، شيء أعمق بكثير من أن نحصره في فكرة أو نسبر أغواره أو نرى مداه بالضبط، تبقى دومًا هناك نقطة أبعد. حتى أن ماركيز تحدّث بسخرية فجّة مرّة عن يأس أبعد وأسوأ بكثير لن يعرفه سوى رجل رمى بنفسه من سطح بناية يائسًا من كل شيء ولكنّه في طريق السقوط كان قد تذكّر أو وجد سببًا جديرًا بإبقائه لوقت آخر. لكنني في نفس الوقت هي الشخصية الانتحارية ذاتها. غير أنني لست من يفعلها، هذه هي بمنتهى الاختصار. أنا لا أنتحر .. لكنني فعلا أترك للموت أن ينهشني بحريّة ورضًى، تستطيع أن تعتبرها طريقةً خاصّة للاحتفاظ أو التعبير عن الحقّ الوحيد الذي يخصّني من شيء يشبه الرّد بالمثل. إن كنت قد رضيت تمامًا بقرار أحدهم فعليه أن يرضى ويقبل بالمثل بأيّ مما سيكون من دون أن يجرؤ على مطالبتي بأي شيء أو يراجعني في أي شأن كان. لذا لا أفترض ولا أتوقع ولا أفكر إن كان هناك من سيرضى أو يتقبل فكرة موتي أو يرفضها. لأنني سأفعل على كلّ حال هذا كلّ مافي الأمر.

أعرف تمامًا أنني لست مصدومة أبدًا، لكنني هذه المرة فعلًا وجدتني أجاهد لأعصر جرحًا غائرًا.. كما لو أن بنيانًا سقط على رأسي دفعةً واحدة، هذا كلّ مافي الأمر، أعرف أيضًا أنني لأوّل مرّة أتمسّك بعناد لم تجرّبه يومًا، وأقبض على صمت وعدتك مرّة أن لا ألتزمه أمامك حتى لاتخاف، لاأفكر في إخافتك بالتأكيد، أنا أنا.. لم أتغير مازلت أجد بنفسي نبضةً أخرى تزداد قوةً يومًا تلو آخر، لكنني شعرت بإهانة حقيقية حين وجدت نفسي بحاجة لأن أدافع عنك منك أنت. لم أجرّب الوقوف أمامك يومًا حتى وإن كنت أستطيع ذلك، لكنني أعرف لك هيبةً ومكانةً ربما يشبع غروري كل ماأجده يمتثلُ فيّ أمامها تلقائيًّا من دون أن أفكر في السبب، شيء ما لا أجرؤ على تجاوزه أو الجرأة عليه. ناهيك عن أشياء كثيرة أعرفها عني أنا، لذا لست بحاجة لأن أتصرف بطريقة لاتشبهني أمام نفسي أو أمامك لأي سبب كان، ربما كتبت لك ماكتبت كما لو كنت أريد لجزء من روح وأسباب تتنفّس ويعلو صوت موسيقاها بداخلي أن يبقى هنا ككلمة باقية. أو كهويّة لا أملك سواها، أعرف تمامًا أنك تعرف الكثير من هذا سلفًا، حتى وإن كنت قد مررت بالكثير من لحظات الدهشة حتى وصلت هنا، لكنني أردتك أن تفهم يومها فقط أن ماجرحني لم يكن تصرفًا بل سببًا دفعك لفعله. بدوت فعلًا كما لو كنت نسيت أو كنت تخاطب شخصًا آخر!، أعرف جيّدًا أنني ساذجة بشكل عام وسخيفة في أغلب لحظات جنوني، لكنني حزنت حين تساءلت بداخلي إن كنت قد نسيت فعلًا أنني لم أكلّف نفسي يومًا عناء الالتفات لمواء الجواري وصراع البائسات على بلاطك لأنني لم أنس يومًا شرف أن ألتزم الصّمت في حضرتك. بدوت كما لو أنّك لا تميّز ملامحي حدّ أن اضطررتَ لأن ترفع إصبعًا وتشير إلى قلبي كما لو كان ندبةً أو ذنبًا أو عمرًا تتساءل عن أجَله. وجدتني أعرف تلقائيًا كيف لمكلومة ليست مضطرّة لأن تبايعك مجددًا ولا أن تذكرك بأنك تبقى أنت الملك، أن ترمي يدها على صدرها وترتدّ واهنةً خلف الباب من دون أن تكون بحاجة لهزّة أخرى أو محاولة أشدّ صرامةً وغموضًا تتركها عند العتبة وتبقى واقفًا بشهامة وصدق، حريصًا ككلّ مرّة أن لا يمسّ بوجعها أحد.

لم أكن بحاجة أخرى بعد آخر ماكتبته لأن أتحدث لشخص يعرف كيف يحميني من دون أن يقطع ولو لمرّة صمتًا فرضه بعناد ثقيل.

أعرف فقط أن ذلك الخوف الذي انتفض بداخلي سيبقى مذهولًا يتساءل عمّن يعرفني حقّ المعرفة ويدرك وجودي، يحمل في يده عهدًا وولاءً وكلمةً لم تزلّ ولم تتراجع لمرّة.. إن كان بحاجة لأن يتأكد عن مدى معرفتي بالفرق بين السّم والترياق، وبين الموت والحياة، وبين الثابت والوهم، وبين الهدوء والصمت، وبين الشكّ واليقين، وبين الضّعف والقوّة، وبين الحقيقة التي لاتتبدّل ولا تغيب وأي خدعة متاحة، وبين اللاسبب وأي أسباب لا تغير من الواقع شيئًا سوى أنها تدفعه للصمت أو للبكاء أو الضحك من باب التسلية لا أكثر.

أحمل أسبابي الخاصّة وقناعتي وكلّ ماأحتفظ به لأن أكتفي من الوقوف في هذا المربع الرقمي. وأوصد على ذاكرة قلبي سلامًا وأمنًا من أي خوف، أو حاجة لجرعات متغيرة من الحديث، لديّ مايكفي من الحياة لأعيش به وله وعليه عمرًا يعرف أجله، ولديك ماحملته من أيام وأسباب لم تستطع يومًا أن تحول بينك وبين يقينك الذي تجده أشدّ وضوحًا في كلّ مرة تدرك فيها أن قلبك مازال على حقّ وأنني أبقى كما أنا.

ساءني من نفسي أنني نسيت أنك حين لم تكن بحاجة لقلبي نفسه تركته حيث أقف وبقيت تطوي الأيام على بعد خطوة لا أكثر غير أنّك أرخيت على اسمي صمتًا ثقيلًا. ربما هذا مايجعلك تبتسم أحيانًا حين تراني أقرأ اسمينا في عينيك وأشرد بعيني خوفًا من أن تلتمع اللهفة فيها فتتصرف كما لو كنت لا تقرأ إسمًا وحيدًا يوقد في عينيّ ضوءًا لاينطفئ، ولكنّه يرتبك في كلّ مرّة كما لو أنه يلتقط أنفاسه أمام ليل ليس كمثله ليل لا يسكن سوى عينيك.

أحاول أن أخدع نفسي بأنني لابدّ وأن أجد حاجة للحديث يومًا لكنني أعرف جيّدا أي صمت يكونه صمتي حين لا أتكلف عناء المحاولة. كلانا يعرف بأنني لم أكن بحاجة للمشورة يومًا بقدر ماكنت أعرف طريقي وأنا أذرع وحشة الكون وأكشّر في وجه خوفك وألوذ لشيء من السكينة والأمان وأنا أتخيلك تبتسم فقط في كل مرة طرقت الباب فيها هنا مهما طال انتظاري. كلانا يعرف أنني أحترم كلمتك قبل أيّ شيء، يؤلمني فقط كم بقيت أنتظر أيامًا وأشهرًا أن تمتدّ يدك بالسلام وكأنها نسيت أول السلام وأوّل العهد وأوّل يقين حين تركت فيها المفتاح الوحيد لبناية تحمل شقة وحيدة في الطابق العلويّ في أول مرة خرجنا فيها لقهوة وحديث طويل. كنت أبتسم يومها حين شعرت أنني آمنت على نفسي إلى الأبد من أيّ ضياع.

لم أكن بحاجة لأن أسامح أو أغفر شيئًا في أي مرة لأنني كنت أقبل كل شيء كما هو وأمتثل لكلّ ظرف من دون أن أراجعك، أو أحتاج سببًا أو رايةً لأقول بأنني أقف في صفّك. هذه المرّة أيضًا أنحاز لقدرك وأحتفظ بيدي على قلبي، أخاصم جرأتك وجفاء ردّك بهذا الصمت . من دون أن تكون مضطرًا لأن تمدّ إليّ نصيحةً أو تقرر ماإن كنت أريد أن أفهم أم لا.

تعرف جيّدا أنني سأبقى دومًا كما أنا، لست حتى بحاجة لأن أكتب دعاءً أو أقسم على معرفة بك تعيها جيدًا وتلمس قدرها عندي. أجدني بحاجة ماسة فعلًا لأن أدرأ عن نفسي عناء التبرير، والخوف من أن أن أُنعت بالرّياء، لم أتكلّف يومًا عناء الدفاىع عن قلبي لكنني هذه المرّة .. أمام يدك بحاجة حقيقيّة لأن أفعل. وحدك تدرك تمامًا أنها الوحيدة التي تعرف سرّ طفولتي وتشعل جنوني، وحدك تعرف أنها أول نقاط ضعفي وأنني لا أستطيع مع دفئها وقوتها وقوفًا ولا صبرًا. آسفة لأنني شعرت بالخوف من أن أقرأ ماكتبت فقط. لا أعرف أيّ كلمة تستطيع أن تتركها بهدوء وتبقى خائفًا من أن أسقط في نحيب طويل. أعرف حاجتي لأن أشكو لك من الدنيا بأسرها أو أن أتربع أمامك وأصغي بحبور لما لديك وكأن الدنيا لن تجرؤ على الاقتراب منّا طالما أنّك هنا، أعرف نظرتك التي تردّ على خوفي بسخرية تصيبه في مقتل، أعرف يدك نفسها التي كانت تشدّني وأنت تضحك من سخافاتي وثورتي، أعرفك أكثر مما أعرف نفسي وأعرف ماعرفته منك ومعك وعنك .. أعرف صوتك الذي يتخبّط بين ضلوعي حتى هذا اليوم وكأنّك تتحدّث إليّ من داخلي. أعرف ما لاأسمح للجدال فيه حدّ أن أشعر بالغضب والحزن كلما جرحتني محاولة لأن أشرحه أو أبرره.

كن بخير . طابت أوقاتك

بُعد بصريّ

 

؛

عزيزي القارئ اسمح لي أقدّم لك نفسي، اسمي ليس مهمّا هنا لأنّك ستجده في نهاية النّص على كلّ الأحول، شخصيّتي تخصّني في المقام الأول بعد من أحبّهم، دعك من الشكليّات ولفائف رثّة من هويات زائفة رفلنا فيها عمرًا طويلًا، أنا مثلك تمامًا، مجرّد إنسانة تنظر معك نحو المشهد ذاته، قد تحسبني محض شخص يريد أن يثرثر فقط ريثما تنتهي هذه الفواصل المرهقة من الحراكات وظروف تتكرر بعدة أوجه وُزّعت بمنتهى الدّقة على العديد من الأقطار العربية، أعترف بأنني ثرثارة لحدّ يثير الجلبة في حياتي الخاصّة لكنني لم ألتفت نحوكَ لأثير أيّ جلبة وبالتأكيد لستُ الشّخص الذي يحاول أن يمدّ يدهُ هنا ليغيّر المحطّة أو يتلاعب في زاوية المشهد، لن تتغير الصورة على كل الأحوال، كلّ مافي الأمر أنني أردت أن ألفت انتباهكَ لشُعلة كانت تقف معنا في نفس المشهد، تجمع الصمت ذاته .. لا لتبتلعه بل لتصنع منه فتيلًا يستطيع أن يوقد ولو بصيصًا من الضوء من شأنه أن يفسح في العتمة متسعًا كافيًا لأملٍ من نوعٍ آخر.

سنوات طويلة ونحن نتعامل مع حماقة مترفة، نتنقّل بحذر في شوارع وطرق تعبق بالدماء، والصمت والخوف والكثير من يأس معلّب، علّمتنا شاشات العرض كيف نجلس بهدوء وتربّص لنتابع عجزنا بحزنٍ بليد، نبكي لموتنا، نصرخ بحرقةٍ أحيانًا وننادي على بعضنا من دون أن نذكر أنفسنا، ونحمل رفات أحلامنا وهنًا على وهنٍ ونمضي لأيامٍ أُخر في جنازةٍ لاتنتهي من التسليم وليس الاستسلام.

نعرّج على دراويش الليل أحيانًا، ندير مشاعرنا بمرونة لنختار من ألوان الكوميديا لونًا يتماشى مع مزاجنا الحاليّ ونشاركه موجات مرهقة من ضحك غارق في الدموع أو نبتسم لقدرته على السخرية منّا أفضل مما كنّا سنفعل.

نركض بلاتوقّف في دواليب الحياة هربًا من واقع لانريد أن نعترف بأننا جزء لايتجزّأ منه، خوف، هرب، يأس، وعجز واستسلام زائف خلق الكثير من الأفكار التي جرّت علينا تطرّفات، وانقسامات، وجزع، ونفور أعند من أن يضع غضبًا أو ينحاز لجمع أو يقف لصراخ ينطق بغير الحديد والدّم وبارود مسموم بالجهل.

سأبسّط لك الأمر إن أردت ذلك، في رأيي أظنّ أن تلك المناوشات المستمرة على أجهزة التحكم في المنازل كانت أول بادرة – أو بذرة – لهذا التخبّط المتشدد في أميّته، نفور تلو آخر، ورفض بعضه فوق بعض بقي رابضًا، يتراكم في زوايا أيامنا، يملأ خطوط أكفّنا ويترك في برد أصابعنا رجفة دفعتنا لأن ننزوي خلف الأبواب وننغلق على ضعفنا بلا اكتراث لفوّهة غائرة في الجاهلية ستبقى تتسع وتمتد نحونا حتى تبتلعنا في لحظة واحدة.

قد تحسب أنني أتحامل عليك، وقد تكون متفقًا معي في كل ماقلته، ناهيك عن حقيقة أننا كشعوب أو أفراد صرنا نحاول قدر استطاعتنا أن نصرف أذهاننا ووجوهنا عن كل ما فقدنا فيه السبيل والحيلة، لذا سأختصر عليك المسافة الفاصلة بين ماتراه مستحيلًا وما يحسبه الكثيرون وهمًا أو محض سخافة لن تغيّر من الواقع شيئًا، بعلامة فارقة، كان قول الله واضحًا وصريحًا حين فرّق بين القاعدين غير أولي الضرر والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيله، لن أتطرّق كثيرًا في فلسفة التغيير والاختلاف، لكن ربّما أطرق جدار الخزّان قليلًا لأعيد لذاكرة وعيك ووعي القرّاء مفهومًا فُقد وتمّ تشويهه في ظروف غامضة أدارتها لعنة سُمّيت بـ (الفوضى الخلّاقة) .. أجل، أنا أيضًا أبتسم معك الآن، ربما فرقتنا تلك الفوضى زمنًا طويلًا، وخلقت مسافات واسعة وفراغات معتمة صار من الصعب ملؤها أو اجتيازها من دون أن نوجد فيها حدثًا يعيد لمفاهيمنا ووعينا جزءًا كبيرًا من اتزانه، لكن يبقى دومًا من ينظر كما ننظر ويجمع من الصمت مانجمع ولكنّه يعي أنّ كلّا منا يحمل من المسؤولية ولو جزءًا بسيطًا موكل له دون غيره، ليهبه كامل استعداده وهمّته وحضوره، ويرفع رايته الخاصّة، ليخلق في المشهد حدثًا فارقًا ورقمًا صعبًا يثقل المعادلة لحدّ أن يكون من الصعب أن تنتهي إلى ماكانت ستنتهي إليه.

تأسست منذ طفولتي على يد علّامة في مادة الجبر والرياضيات (أمّي)، ولهذا يبقى عندي ارتباط وانحياز حقيقيّ تجاه الحسابات والمعادلات، وبحسب ماتقوله معلّمتي الأولى عن الرّقم (صفر)، أنّه الرقم الكارثة – كما تسمّيه – أو الرقم الذي لا يستهان به أبدًا إذا أنه يستطيع أن يغير المعادلة كاملة ويقلب طاولة الحساب في لحظة واحدة. ومن هناك من الرقم صفر تمامًا وببعد بصريّ نافذ وبصيرة واعية، لمعت في الفضاء الرقمي علامة فارقة، تحمل إرثًا وفكرًا وحضورًا وهمّة عالية لتخلق حدثًا ثقافيًا يعيد النبض لجثة فكرنا الواهنة وتثير في حقولنا الثقافية والفكرية طاقة كبيرة بطريقة عصرية ولكنّها تحمل من العراقة أسسًا ثابتة لابد وأن نقف عندها كلّما أردنا أن نستعيد من اتزاننا شيئًا أو نلتقط أنفاسنا قليلًا ونروي عطش أرواحنا لحكايات قديمة أو فواصل إعلانية بنظرة أخرى، وأمل أكثر بعدًا وحوارات، أفكار وآراء قد تكون فاصلة وفارقة تمامًا.

من هناك، وعن بعد بصريّ نافذ، أعلن الأستاذ عبدالله الدحيلان على متصفحه على تويتر عن برنامج فكري جديد بطريقة عصرية تزامن مع انطلاقة قناة ثقافية على اليوتيوب أسماها بـ (البعد البصري)، تاركًا الجميع في حالة ترقّب وذهول،

وبخطى واثقة في الفضاء الرقمي، غيّر المعادلة مجددًا ووضع أولى أساساته بحلقة تجريبية مختصرة عن برنامجه فكرًا ومحتوىً وثقلًا. (لبيروت) سلام من قلب فيروز، واسم لبرنامج إعلامي حريص ومحاور لايستهان به، عرف تمامًا كيف يخلق حدثًا ثقافيًا جديدًا ويملأ الكثير من فراغات الوعي بنظرة بعيدة وثابتة. جميعنا في انتظار للحلقة الأولى، وأظنّ أنّ إعلاميّا فذًا عرف كيف يسبق الأضواء ويقف بثبات في الفضاء الرقمي مستعدّ تمامًا ليجعل قواعد المعادلة في حالة ارتباك جديد.

حزن أبيض؛

أمامي مواجهة مصيريّة .. في كلّ الأحوال أعلم كيف سأجتاز هذا الأمر، كان لديّ الكثير من الكلمات التي وددت لو أنني استطعت أن أتركها بين يديه، ولكن يبدو أنّها ستقاسمني هذه الغفوة وتقطع معي هذا الطريق، كلّ شيء حولي هنا مرتب بعناية ونظيف، كلّ شيء أبيض بطريقة ما، المصل على يميني، قبعة الممرضة القلقة، معطف الطبيب، حبوب المسكّن، لون الملاءات والستائر والسقف، جهاز حساب ضربات القلب، الضمادات الملفوفة بعناية تحسّبًا لما قد يحدُث، كمامة أخصائيّ التخدير، وحتى عينيّ اللتان أعياهما الحزن والانتظار..

تركت لبعض الصديقات شيئًا يشبه رسالة سلام لاوداع، وجلست أمام هذه الورقة طيلة هذه الساعات أفكر فيما يمكنني أن أكتبه له كتحيّة أو كشيء مشابه.. لديّ الكثير مما لايعلمه حقّا، الكثير من الأيمان والوعود وجرح غائر لم تقو يداي على ستره أمام عينيه، خفت كثيرًا أن يلمح جرحي، أو يلمس بصوته وحشة روحي فأهوي دفعةً واحدة، خفت كثيرًا أن يسألني عن قلبي مصادفةً فيلتقط كذبي بيديه ويرفع حاجبه بتحدّ كأستاذ ضبط تلميذًا يراوغ نظراته ليصطاد بضع كلمات مجاورة يحيك منها جوابًا ملفّقا على سؤال غريب أمامه، خفت أكثر من أن أخبره أنني حضرت فقط لأنظر إليه قبل أن أضطر لأن أواجه هذا الأمر بمفردي، وأنني خفت أكثر من أن تبيضّ عيناي من الحزن والدمع فلا أتمكَّن من رؤيته فيما بعد، لكنّ خوفي الحقيقيّ كان من أن يمدّ يده بتلقائية ليصافحني، كنت سأقع في ورطة حقيقيّة حينها..

كنّا قد اتفقنا إن أفزعتنا كوابيس فاسدةً، أو تبادلتنا مخاوف معلّبةً وأحزانًا رثّة .. أن نعود مجددًا، ثملين بسخريتنا كجنود نفروا لحرب ملفّقة بلا أوزار، نجد المفاتيح عند العتبات، نبتسم بمكر، بينما تتغامز أشواقنا سرّا حين يلفّنا السكون، يفتح ذراعيه تلقائيّا فتنمو أطرافي المبتورة في لحظة وأتوسّد صدره، بينما أترك يداي مقيدتان خلفي كأسيرة في يديه، توقظني ابتسامته التي أشعر بها تتوغّل في شعري، حتى يهمس أخيرًا، تربكني أنفاسه فلا أجد وسيلةً لأخبره بأنني فقدت ذاكرة حرب بأكملها وتركت شعري يسقط على كتفي ببطء،ليزيحه عن وجهي بيدٍ واحدة مؤكدًا بأنني حربهُ الجارية،أسكب الكلام دفعةً واحدة لأهدهد قلبه، القهوة طازجة، الثياب مكوية، الطعام ساخن، ولايهمّ إن كان المكان مرتبا بدقّة لكن حصّته معدة سلفًا على الدوام، يجدني دائمًا على جانبه الأيمن، ولي ماشاء من سلطته، يظنني أتهرّب أو أراوغ، فيثبّت ذراعيه ببساطة من دون أن يشدّني بقوة أكبر وكأنه يقول جرّبي ان استطعت، أضع أصابعي على ابتسامته، أتتبعها بنفس الدهشة كلّ مرّة كما لو كانت الأولى وأبتسم.. أنا هنا/نحن هنا.. وهذا ماكان يكفينا دومًا لننسى كلّ شيء، وكأن شيئًا لم يحدث، لهذا لاأجد ماقد أقوله له بشكل مباشر، لطالما كان على الكلام أن ينتظر أو ينزوي في الظلّ آنسًا بصمتنا، مبتسمًا لمناوشات أصابعنا التي لاتنتهي..

كان الصّمت أقسى ماحملته طيلة هذه الأيام وأثقل مانزل بي حدّ فرغت الأنفاس التي التي بقيت أدخرها ليحصدها في عناق واحد،

مازلت أذكر تلك الليلة التي بلغ بي الإعياء مبلغه وأسقطتني حدّة البكاء على السرير جثّة مثخنةً بالموت والليل، كنت كلما سألت الله عنه دلّني، وكلما أوصيته عليه أجابني وكلّما هزمني البكاء ابتسم لقلبي، تلك الليلة ناديت الله بيأس لمرّة واحدة.. ولم أزد بغير اسمه، أستطيع أن أقسم بدهشتي حينها، حين سمعت صوتًا يهمس في أذني برفق، صوت لايشبه صوت أيّ منا على كلّ حال، وشيء ما يشبه يدًا خفيّة، أو حنانًا ودفئًا مصاغًا بطريقة أخرى تربت على شعري بحنان (أنت تحبينه كثيرًا، اطمئني، لاتخافي) قلت (لاأريده أن يتألم او يخاف أرجوك) .. سمعت (لك أن يطمئن ويستكين قلبه إذًا، لقد بلغت دموعك سابع سماء عند ذي العرش) قلت (فليشهد ربّ السماء والعرش أنها خالصة لوجهه لاأبتغي منها سوى أن يبتسم لدعائي ووحدتي ويحتضن قلبه وعينيه وروحه ببرّه وحنانه) .. لاأدري حتى هذه اللحظة إن كان هلعي أم غزارة دموعي هي من طرقت أبواب السماء باستجداء ويقين .. لكنني وددت لو أنني تمكنت من سماع صوته الآن، لو أنني أقول له أحبك رغم كلّ شيء، بل لأجل كلّ شيء وبه.. لكنني لاأجد لذلك سبيلًا ..

زفرة الممرضة بجواري تخبرني بأنها تقف هنا منذ مدّة وأن عليّ أن أستسلم لغفوة لاأعرف كم ستطول وعلام ستنقضي..

مددت قلبي لله كاملًا، حمّلته اسمه وكلّ ماأرجوه لأجله وكل ماتمنيت وانتظرت من لحظات معه، حلّفته بوعده وأقسمت عليه برحمته أن يهبه كلّ ماقسم لي من روح وفرح وسعادة ودفء..

كان آخر ماهمسته لله : أرجوك وحدك لم تلمني فيما تملك ولاأملك، كل ماأحمله وأكنّه وأشعر به من حبّ تجاهه أنت أعلم به مني وأوفى، فاحفظه بحفظك أنت وابتسم لقلبه وعينيه أرجوك ..

لو كانت لي من أمنية بيني وبين نفسي.. ماكنت لأتمنى شيئًا بعد أن يبقى بخير سوى لو أنني أسمعه يقول (اشتقت إليكِ، أحبّك، أنا هنا) ربما لأن الأمر لايحتاج لمعجزة ولالشيء سوى الحقيقة.. ليست معجزة أنني هنا، وأنني أحبه، إنها الحقيقة فحسب وستبقى مابقيت وإن كنت لاأعلم كم من الوقت سيدوم ذلك .

كنت قد طلبت من الله فقط أن يحمل له ابتسامتي التي لطالما أحَبّها لتعده وتوصيه به عنّي ..

شعور مابداخلي يتمنّى لو أنني أفتح عينيّ فأجده يقول : صحّ النّوم، أنا هنا حبيبي، ناديتني كثيرا وأنت نائمة وظللت بجوارك أحرس نومك، خفت أن أفزعك، هل كان حلمًا مزعجًا؟

– أجل، رأيتني أصاب بالخرس، أبحث عنك ولاأجدك، بينما أحمل نظارتك الطبية في يديّ وأسقط في حزن ثقيل حتى كادت عيناي تبيضّان

-امممهمممم .. يبدو أنك تشعرين بالندم فعلا بعد آخر مرّة خطفت فيها نظارتي وأنا أضمّك ..

تبتسم بمرح وتقرص أنفي بحنان

– لقد كان حلمًا كنت هنا طوال الوقت أنتظرك أن تستيقظي فقط

– لو أنّك أمسكت بيدي لصحوت !

تنظر لي بدفء .. تمدّ لي فجرًا مضيئًا وتسأل: تعالي

لأغوص بين ذراعيك وأنا أهزّ رأسي لصوتك وأنت تسألني وكأنك تحملني من عثرة صمت مفخخ بالكوابيس والضياع: تحبيني؟

:)

تذكرني !

تحبّني؟

لاتقل (لا)

(لا) منك أنت تحديدًا ليست محض حرفين

(لا) .. هي شفرة سكين حادة

بلارحمة تمضي على خيوط الأمل التي مددتها إليك!

اشتقت إليك حدّ الإجرام

حدّ دعوة لاتضلّ طريقها في جنح الظلام

اشتقت إليك حدّ أن أقف على سور السطح أناديك

فيجتمع الناس والجيران والأهلون والشرطة والصحافة

اشتقت إليك حدّ أن أضع يدي على صدري

فيخيّل لي أنني سأسمعك (تعالي)..

حدّ أن أترك الباب مفتوحًا كلّ ليلة

بينما أثأرُ لقلبي من حكم لم يطبّق فيه القرآن !

وكأنني نبيّ يمدّ يده للحياة بما في وسعه ليبرأ من اللّوم،

ولأنه أدرى بحكم الله وشرائع السماء

يحفظ خوفه،

يتتبّع شعاب قلبه فزعًا

يرجو ربّه أن لايؤاخذه فيما ليس بوسعه ولايملك عليه سلطانًا ولاأمرًا

فلا يلومه فيما يملكه الله ولايملكه هو !

أنا بخير .. لاعليك

حتى أولئك المعتكفون في محراب ابتلائي

الذين يتلون أوجاعي

يتربصون بضعفي

ويتصيّدون جراحي

أحدثهم عنك بفخر

أخبرهم بأنّني أمّك

أولئك الذين يعيثون في قلبي فسادًا ..

أخبرهم بأنّك لم تُبق على حزني ولم تذر

وأن وجع الخريف على ضفاف عينيك

لم يدع من شتاء الخوف

ولا من ماء عينيّ شيئًا

منذ أن فارقتك وأنا محض دمية

هيكل مفرّغ بعينان زجاجيّتان

أتأمّل الراحلين ببلادة

تستفزّهم صرامتي لاأكثر

فيتعثّرون بحزني وغضبي

يرتطمون بتصخّري

أمّا أنا ..

فأبتسم للأشياء بعدك باشمئزاز

وكأنّ غيابك محضُ نكتة

مزحة سخيفةٌ

تتندّر بها الحياة لتسخر من وحشتي

ماذا كنت تتوقّع مني أن أفعل حيال فقدك

أزجّ بكرامتي في أفرانهم ؟

أتمدد كبساط تحت نعال أفكارهم المتّسخة ؟

أم أبيت عند عتبات عقولهم المغلّقة بأقفال صدئة؟

ماذا كان يتوقّعني العالم أن أفعل مثلًا

أتزوّج مرّةً أخرى لأنجب سواك ؟

أو أعتكف في هامش قصيّ من الحياة وأبكيك ؟

أستبدل حياة بموت مموّه

أم أخون جرحًا فتّش عني .. لأبيع نفسي وأفتّش عن جرح مزيّف !

أنا أشقّ طريقًا آخر إليك

لاتتقاطع معه فُسح القضاء ومتاهاته

ولا يربكهُ صوت مطارقه

ولا يتعثّر بوحشيّة الملتفّين عليك

ربما لأنني ببساطة حين ضللت طريقي إليك

وصرت أفتّش عنّي بفزع في قلبك

تركت طريقي معروفًا

ربما تجدني أنت مجددًا

كما فعلت في أول مرّة ..

لم يكن حبّا ما نقر خطاه بين قلبينا

كان قدرًا ونداءً وحقّا

كان حقيقة أوجدها الله من عدم

ألتزم الصمت أمام هذا الموت الذي يمتدّ في أطرافي

الأمر لاعلاقة له بجدارة الحياة أو جداوها

بل بوعد الله الذي لم يخلفه معنا يومًا

وحده الله هو الأجدر والأحق بوعده

كما بدأ أول خلق

وأول شيء

وملايين المرات الأولى

هو الأجدر بأن يعيدها

وعدًا عليه

وكلّ وعد آت .. وكلّ آت قريب ..

ليس آخر الأحزان فقدك

بل أكبرها وأوجعها

لكأنّه أولها

لم يكن جدارًا وقف في وجهي

فأفزعني جحوده

كان بابًا أوصد علينا الأمان عمرًا

وحين انخلع فجأةً

تناولتني العتمة وثارت عليّ كلّ المكاره

حتى العيون التي كان قلبك يحرسني من زيفها

انقلبت عليّ بعدك،

صارت تعرف كيف تلوّن بريقها امتثالًا لحرمة حضورك

وهيبتك التي فرضتها على صمتي

صارت لاترميني بخبثها أبدًا

لكنها تتحرّى كلّ غفوة لتجمع لومها وإشفاقها

وتشمت من ذلك الفراغ الذي لم أعتد بعد على الغوص فيه لساعات طويلة

من دون أن أخرج رأسي وأشهق من هذا الخواء حولي

لأملأ أنفاسي بلا شيء

سوى الصمت .. والظلام ..

١:٠٠ بعد منتصف الليل ..

شو بيشبهك تشرين ..

أتذكر تلك الفتاة التي كانت تنتظرك في الطابق الأخير في مدينة يكرهها كلينا!؟

ولاتملك في ذلك المكان صوتًا، ولا ذاكرة..

ولاخوفًا من أمس .. أو نجاةً من كلّ غدٍ تستقبله بك

لتحبو على شوقها

تسلك شوارع موحشة تمتدّ بينك وبينها

تزرع بها غيومًا وظلّا

تنقر نافذتك بخفّة وتترك أغنيةً وتعود لعزلة لاتملك بها حتى سريرًا صالحًا لنسيان أو غياب ..

لا تملكُ سوى مضغة .. تتحرّى قدومك لتستحيل عاصفةً ..

لم أجرؤ لمرّة على إخبارك حينها عن الليل الأبيض في عينيك،

كنت كلّما توكأت على انتظاري نحوك ..

أتعثّر بالخوف من أن تنهب اللهفة أصواتنا

ويذوب الوقت سريعًا ..

ربما لهذا لم أخبرك عن الأقمار التي تضيء في عينيك

حين تلمحني من خلف الباب ..

كنت تبتسم كعائد لوطن يحرس الصمت لأجلك ..

تترك عينيك معلّقتان عليّ، حتى يستردّ قلبي ذاكرة السلام ..

لهذا كنت تمدّ يديك فجأة لتضمّني إليك

لألقي بتعبي، وأعود لبيتي بهدوء .. لأسكن في دفء صوتك .. وأنت تسألني عنك !

ربما لهذا بقيت ألوم نفسي

من يدري.. لو كنت قد أخبرتك .. ربما ماكنت لأنزوي في العتمة بصمت ..

وأنا أتبع رحيلك

بُعدًا تلو آخر، حتى صرت أحصي غيابك

أجمع خطاك وأثرك .. من دون أن أجرؤ على الصراخ أو النداء..

كنت أعلم أن شيئًا ما.. وهن/ أو تغير بداخلك منذ وقت طويل .. ومنذ وقت طويل وأنا أنتظرك حتى حين أكون معك ..

ربما لهذا السبب أيضًا اكتفيت بابتسامة منهكة

وأنا أسمع أمر خروجي منك على الهاتف

كان صوتك بعيدًا وموحشًا

كليل بعيد يشبه نقطةً بعيدة على الخارطة لوطن بعيد،

لم أعرف حينها كيف أخبرك

بأن صوتك كان أمانًا.. وميراث دفء

تلقيه هذه المدينة على قلبي سرًّا ..

وأن النوم حين لفّني بين ييديك مرّة

أنقذني فيها صوتك من الخوف

وأنت تناديني باسمي وتطبع قبلة على جبيني ..

حين سألتك كم لبثت بين يديك يومها .. أخبرتني بأنّك نسيت الوقت تمامًا !

قلت لك بأنك كنت تستطيع إيقاظي !

* وأستطيع تأمّلك أيضًا، عمر من الأغنيات لايكفي أمام هدأة النوم في ملامحك ..

كنت صغيرةً على أن أفهم ماتعنيه..

وربما كنت ماأزال غارقةً ببقايا نعاسي فقط

لهذا .. غنيت لي قصيدةً كاملةً على نفس واحد !

أسباب كثيرة كهذه وأكثر

دفعتني للصمت مثلما صمتّ لأوّل مرّة

كيف كان لي أن أسألك حينها كيف استطعت أن تعلن خروجي يومها

كيف استطعت أن تعلن أن هذه الأرض ليست لي

وأنك بعيد بما يكفي

وأن كل ما يجري ليس محض كابوس

أو يتمًا مزيّفًا لاأكثر ..

لذا كان من الصّعب عليّ أن أقول لك بأنك كنت لي أمّا

حين هددوني باليُتم مرّة وخشيت أن أغدو بلا أمّ !!

وأنّ أمّي أضاعت ملامحي من ذاكرتها في مكان ما،

ومذ سألتني من أكون في آخر زيارة .. خفت أن ينساني البكاء أيضًا قبل أن أصل إليك ..

لأخبرك بأنها وبالرغم من نسيانها لملامحي

مازالت تجرّ نفسها كلّ ليلة لتسقط على سريري متعبة !

فكيف تريدني أن أعود

ولاملامح / أو ذاكرة لديّ هناك

ولاسريرًا لنسيان أو غياب ..

لهذا أيضًا كان عليّ أن أسقط لأحمي السوار الذي لففت معصمي به ذات مرّة بأقمار سبع !

ماكان لي أن أعود لبيت أجمع عليّ فيه عزلتي

وأنتظرك ..

لأسقط على سرير وحيد بلا ليل ولاأقمار أو ذاكرة تصلح للسّكن ..

وأنني منذ ذلك اليوم نسيت أن أنام ..

كنت أسمعك على الهاتف وأبتسم خوفًا من أسقط في نحيبٍ يعرّيني أكثر

وقفت لوقت طويل في منتصف الشارع

محض يتم ضاق به الزّحام ..

لهذا لاأعرف كيف أخبرك بأنني بحاجة ولو لغيمة مما كان في حوزة تلك الفتاة

وأنّني توقفت عن ذكر الشّتاء لأنني ماعدت أعلم أيّ برد سيطويني فيه ..

وصار كلّ خوفي أن يقف الزّمن ..

فتقف ذاكرة أمّي عند النسيان

وتقف أنت حيث أنت.. على بعد خطوة من الرّحيل

أو تمضي الأيام كما تمضي

فأقف على غربتي .. أجمع يتمي وعتمتي

وأنزوي في الصمت

أتوسّل للسّماء

أن لاتمطر الدنيا ولستَ معي ..

الحادي والثلاثون من تشرين الأول/٢٠١٧

١١:٠٠ صباحًا

لو ..

لم أصدّق أحدًا، حتى أشباح صمتك التي يزداد ظلّها طولًا ويعلو صراخها كلما اقتربت منك أكثر .. اضطرّت – أو ادّعت – أنّها تصادقني لتصفعني بنفس الحقيقة عند كل وصول، كنت أحسب أن معجزةً ما ستدركني ذات يوم، كأن ينفض ملاك محايد جناحيه فجأةً وهو يبتسم لحزني من بعيد، أو تنزاح عن الشمس غيمة ثقيلة من الخوف، أو تنظر لقلبك فتجدني صدفةً.. لأجد في يأسي سبيلًا لمغتسل دفئك، بينما أركض حافية في أرضك.. أقطف غيابك وأكنس الوحشة وأقتسم من صلب قلبي رقعًا أرتق بها جراحك وأنسى أنني على قيد شيء سوى ليل عينيك،
كنت أحسب أن كلّ وجع أتحامل عليه .. محض دين أسدّده للحياة عن طيب خاطر .. مقايضة مع القدر ربّما! حتى أدركني الفناء بالكامل وغبت في بعد من العوز ماظننتني سأهوي فيه يوًما وماسمعت به من قبل في أيّ ملّة من ملل المغتربين..
كل جرح كان طريقًا غار في ملامحي، لكِنّ هذهِ المرّة .. كان الأمر مُختلفا جدًا، أرق مزمن، وغربة تنهبُ قلبي دون توقّف .. مثل سُعالٍ كامن في الرُّوح، أحمِلُ ظلّي الباكي بين يديّ و عبثًا أهدهدُه كلّ ليلة كَي يَنام !
هذا الخواء.. وجرح صمتك على ضفاف أيّامي لم يُبقيا من عزيمتي شيئًا ..
أمضي بك .. لا وأنت معي ..
لك بالي، جرحي، غربتي وكامل ليلي .. تسكنه، تطويه في أمتعتك الزهيدة .. تقطع به حدودًا، تجول به وجوهًا ومدنًا ..
بينما أتلوّى في عتمته ألمًا منفيّا
خطوط يدي .. ذاكرة ملامحك
أشواك خدّك .. غصّة قلبي
وصمتُك .. جرحٌ شاءني ..
ما مددت له يدي، وماظننت أنني سأجازى بالودّ أن أصطفى من بين العاشقين لأعيش جُرحًا أو أموت نبيًّا ..
غصّة الطريق، ويمين الأبد الذي صلبت عليه روحي لم يكن قدرًا.. كان مصيرًا عبرته سيرًا على الأوهام، حتى وحشة الخيبة المحشوة بالصدى .. كانت كابوسًا سرقته بيدي لأقطعه كلّ ليلة قبل أن يغلبني اللّوم ..
وحدها عتمة الفقر التي تتلوّى في صدري تعرفني، تنبش جرحي، تفوح من يدي وتصرخ في وحدتي .. تمدّ ظلّها على أوراقي لتدينني حدّ أن أتمنى لو أنني متّ قبل كل هذا وكنتُ نسيًا منسيًّا ..