حزن أبيض؛

أمامي مواجهة مصيريّة .. في كلّ الأحوال أعلم كيف سأجتاز هذا الأمر، كان لديّ الكثير من الكلمات التي وددت لو أنني استطعت أن أتركها بين يديه، ولكن يبدو أنّها ستقاسمني هذه الغفوة وتقطع معي هذا الطريق، كلّ شيء حولي هنا مرتب بعناية ونظيف، كلّ شيء أبيض بطريقة ما، المصل على يميني، قبعة الممرضة القلقة، معطف الطبيب، حبوب المسكّن، لون الملاءات والستائر والسقف، جهاز حساب ضربات القلب، الضمادات الملفوفة بعناية تحسّبًا لما قد يحدُث، كمامة أخصائيّ التخدير، وحتى عينيّ اللتان أعياهما الحزن والانتظار..

تركت لبعض الصديقات شيئًا يشبه رسالة سلام لاوداع، وجلست أمام هذه الورقة طيلة هذه الساعات أفكر فيما يمكنني أن أكتبه له كتحيّة أو كشيء مشابه.. لديّ الكثير مما لايعلمه حقّا، الكثير من الأيمان والوعود وجرح غائر لم تقو يداي على ستره أمام عينيه، خفت كثيرًا أن يلمح جرحي، أو يلمس بصوته وحشة روحي فأهوي دفعةً واحدة، خفت كثيرًا أن يسألني عن قلبي مصادفةً فيلتقط كذبي بيديه ويرفع حاجبه بتحدّ كأستاذ ضبط تلميذًا يراوغ نظراته ليصطاد بضع كلمات مجاورة يحيك منها جوابًا ملفّقا على سؤال غريب أمامه، خفت أكثر من أن أخبره أنني حضرت فقط لأنظر إليه قبل أن أضطر لأن أواجه هذا الأمر بمفردي، وأنني خفت أكثر من أن تبيضّ عيناي من الحزن والدمع فلا أتمكَّن من رؤيته فيما بعد، لكنّ خوفي الحقيقيّ كان من أن يمدّ يده بتلقائية ليصافحني، كنت سأقع في ورطة حقيقيّة حينها..

كنّا قد اتفقنا إن أفزعتنا كوابيس فاسدةً، أو تبادلتنا مخاوف معلّبةً وأحزانًا رثّة .. أن نعود مجددًا، ثملين بسخريتنا كجنود نفروا لحرب ملفّقة بلا أوزار، نجد المفاتيح عند العتبات، نبتسم بمكر، بينما تتغامز أشواقنا سرّا حين يلفّنا السكون، يفتح ذراعيه تلقائيّا فتنمو أطرافي المبتورة في لحظة وأتوسّد صدره، بينما أترك يداي مقيدتان خلفي كأسيرة في يديه، توقظني ابتسامته التي أشعر بها تتوغّل في شعري، حتى يهمس أخيرًا، تربكني أنفاسه فلا أجد وسيلةً لأخبره بأنني فقدت ذاكرة حرب بأكملها وتركت شعري يسقط على كتفي ببطء،ليزيحه عن وجهي بيدٍ واحدة مؤكدًا بأنني حربهُ الجارية،أسكب الكلام دفعةً واحدة لأهدهد قلبه، القهوة طازجة، الثياب مكوية، الطعام ساخن، ولايهمّ إن كان المكان مرتبا بدقّة لكن حصّته معدة سلفًا على الدوام، يجدني دائمًا على جانبه الأيمن، ولي ماشاء من سلطته، يظنني أتهرّب أو أراوغ، فيثبّت ذراعيه ببساطة من دون أن يشدّني بقوة أكبر وكأنه يقول جرّبي ان استطعت، أضع أصابعي على ابتسامته، أتتبعها بنفس الدهشة كلّ مرّة كما لو كانت الأولى وأبتسم.. أنا هنا/نحن هنا.. وهذا ماكان يكفينا دومًا لننسى كلّ شيء، وكأن شيئًا لم يحدث، لهذا لاأجد ماقد أقوله له بشكل مباشر، لطالما كان على الكلام أن ينتظر أو ينزوي في الظلّ آنسًا بصمتنا، مبتسمًا لمناوشات أصابعنا التي لاتنتهي..

كان الصّمت أقسى ماحملته طيلة هذه الأيام وأثقل مانزل بي حدّ فرغت الأنفاس التي التي بقيت أدخرها ليحصدها في عناق واحد،

مازلت أذكر تلك الليلة التي بلغ بي الإعياء مبلغه وأسقطتني حدّة البكاء على السرير جثّة مثخنةً بالموت والليل، كنت كلما سألت الله عنه دلّني، وكلما أوصيته عليه أجابني وكلّما هزمني البكاء ابتسم لقلبي، تلك الليلة ناديت الله بيأس لمرّة واحدة.. ولم أزد بغير اسمه، أستطيع أن أقسم بدهشتي حينها، حين سمعت صوتًا يهمس في أذني برفق، صوت لايشبه صوت أيّ منا على كلّ حال، وشيء ما يشبه يدًا خفيّة، أو حنانًا ودفئًا مصاغًا بطريقة أخرى تربت على شعري بحنان (أنت تحبينه كثيرًا، اطمئني، لاتخافي) قلت (لاأريده أن يتألم او يخاف أرجوك) .. سمعت (لك أن يطمئن ويستكين قلبه إذًا، لقد بلغت دموعك سابع سماء عند ذي العرش) قلت (فليشهد ربّ السماء والعرش أنها خالصة لوجهه لاأبتغي منها سوى أن يبتسم لدعائي ووحدتي ويحتضن قلبه وعينيه وروحه ببرّه وحنانه) .. لاأدري حتى هذه اللحظة إن كان هلعي أم غزارة دموعي هي من طرقت أبواب السماء باستجداء ويقين .. لكنني وددت لو أنني تمكنت من سماع صوته الآن، لو أنني أقول له أحبك رغم كلّ شيء، بل لأجل كلّ شيء وبه.. لكنني لاأجد لذلك سبيلًا ..

زفرة الممرضة بجواري تخبرني بأنها تقف هنا منذ مدّة وأن عليّ أن أستسلم لغفوة لاأعرف كم ستطول وعلام ستنقضي..

مددت قلبي لله كاملًا، حمّلته اسمه وكلّ ماأرجوه لأجله وكل ماتمنيت وانتظرت من لحظات معه، حلّفته بوعده وأقسمت عليه برحمته أن يهبه كلّ ماقسم لي من روح وفرح وسعادة ودفء..

كان آخر ماهمسته لله : أرجوك وحدك لم تلمني فيما تملك ولاأملك، كل ماأحمله وأكنّه وأشعر به من حبّ تجاهه أنت أعلم به مني وأوفى، فاحفظه بحفظك أنت وابتسم لقلبه وعينيه أرجوك ..

لو كانت لي من أمنية بيني وبين نفسي.. ماكنت لأتمنى شيئًا بعد أن يبقى بخير سوى لو أنني أسمعه يقول (اشتقت إليكِ، أحبّك، أنا هنا) ربما لأن الأمر لايحتاج لمعجزة ولالشيء سوى الحقيقة.. ليست معجزة أنني هنا، وأنني أحبه، إنها الحقيقة فحسب وستبقى مابقيت وإن كنت لاأعلم كم من الوقت سيدوم ذلك .

كنت قد طلبت من الله فقط أن يحمل له ابتسامتي التي لطالما أحَبّها لتعده وتوصيه به عنّي ..

شعور مابداخلي يتمنّى لو أنني أفتح عينيّ فأجده يقول : صحّ النّوم، أنا هنا حبيبي، ناديتني كثيرا وأنت نائمة وظللت بجوارك أحرس نومك، خفت أن أفزعك، هل كان حلمًا مزعجًا؟

– أجل، رأيتني أصاب بالخرس، أبحث عنك ولاأجدك، بينما أحمل نظارتك الطبية في يديّ وأسقط في حزن ثقيل حتى كادت عيناي تبيضّان

-امممهمممم .. يبدو أنك تشعرين بالندم فعلا بعد آخر مرّة خطفت فيها نظارتي وأنا أضمّك ..

تبتسم بمرح وتقرص أنفي بحنان

– لقد كان حلمًا كنت هنا طوال الوقت أنتظرك أن تستيقظي فقط

– لو أنّك أمسكت بيدي لصحوت !

تنظر لي بدفء .. تمدّ لي فجرًا مضيئًا وتسأل: تعالي

لأغوص بين ذراعيك وأنا أهزّ رأسي لصوتك وأنت تسألني وكأنك تحملني من عثرة صمت مفخخ بالكوابيس والضياع: تحبيني؟

About lalloshcoffee

، أنا الصّلة العميقة بين الظلام والصمت التي لم يفهمها أحد بعد، احتمالٌ يسع الجميع طبعًا ولن يجرح سوى نفسه.. نسيت أن أنسى، وأن أكبر متناقضة لدرجة أنني واضحة..! أحاول أن أكون نفسي .. ولا شيء أكثر .. نصيحة .. إذا أردت أن تكسبني .. لاتحاول أبدًا أن تفهمني و إياك أن تفسرني !

أضف تعليق