ليس حزنًا، بل سرّا أزرق.

 

يبدو الأمر أقرب للمستحيل نوعًا ما، أن تحاول بشكل أو بآخر أن لاتسيء لأحد ممن حولك، أحيانًا يتطلب الأمر مجهودًا مضاعفًا خاصةً حين تكون مدركًا لطبيعة شخصيتك، ربما أحرص على أن أكون على أطراف أصابعي دومًا في تعاملي مع من هم حولي، أكثر مما أحرص على أن لا أمثل ابتسامةً ما في وجه أناس كثر من الصعب أن ينتبهوا لما يقولون عادةً، أملك شخصيةً سريعة التأثر لكنني في نفس الوقت أحمل – أو هكذا أدّعي- عقلًا واعيًا لاختلاف طبائع البشر وطرق تعاملهم حولي، مع ذلك أبقى دائمًا متمسكةً بيقين وحيد لم يخذلني حتى اليوم؛ قد نختلف كثيرًا في شخصياتنا وسلوكنا وحواراتنا ودوافعنا وغاياتنا، لكن يبقى دومًا مايجمعنا أكبر بكثير،

لديّ تحفظ كبير على قناعات – أمين معلوف – عن قيمة إرثنا العربيّ هويةً وثقافةً بعد تصرفاته الأخيرة التي أثارت جدلًا لوقت طويل ومازالت تشكّل حاجزًا أو ثيمةً معينةً تسمهُ عن غيره من الكتّاب، لكنني لا أنكر أنني مازلت حتى اليوم أتردد على كتابه (الهويات القاتلة) وأتفق معه في الكثير مما قاله فيه، لطالما آمنت أنّ للقلم قوّة وأثر أكبر مما نعيه أو نلمسه، وأنّ للكلمة وقعٌ وأثر حقيقيّ على أنفسنا وواقعنا .. ربما لهذا تبقى الكتابة جزءًا لا يتجزّأ مني ومصير لا أجد أمامه سبيلًا سوى الوصول مهما ابتعدت عنه أو هجرته عن عمدٍ أو بسبب انشغالي في التزامات كثيرة تفرضها عليّ طبيعة عملي واتجاهاتي فيها،

قد تبدو الفكرة مضحكةً بالنسبة لمن يقرأها في البداية إلا لو فكر بها قليلًا، أعني عن موضوع الهويات والقواسم التي تجمعنا، أعتقد أن أمين معلوف – مثلًا – يعتبر من أحد الكتّاب الذين أوقعوا أنفسهم في شرك ماكتبوه، ليس من باب انقلاب السّحر على الساحر، إنّما أعني أنّه أكسب نفسه بطريقةٍ أو بأخرى سمةً أو هويّة جديدةً تخصّه دون غيره في الوسط الأدبيّ بغض النظر عن نظرتنا لها،

صحيح أنّ من يقرأ كتاب (الهويات القاتلة) سيتفق مع أمين معلوف من حيث المبدأ، سيبتسم كثيرًا وسيقف معجبًا عند صفحات كثيرةٍ ويصفّق أيضًا، لكنّه سيشعر بالتأكيد ومنذ الفصل الأول أنّ أمين معلوف يدور حول فكرةٍ ما يحاول قولها بصراحة ولكنّه لا يجد سبيلًا لذلك،  فكرة أننا جميعًا نملك الحرّية المطلقة في التعبير عن هوياتنا وانتماءاتنا ونملك المساحة الكافية أيضًا لتقبّل مانراه شاذّا أو مغايرًا وخارجًا تماما عمّا ألِفناه وتوارثناه من حميّة تجاه مايجري في عروقنا ويمور في صدورنا ويغزو عقولنا من عقائد، وتضاربات وقناعات تبدو واضحةً تمامًا علينا باختلافاتها لمن ينظر إلينا من بعيد، ولكننا لانريد ذلك باختصار. حسنًا قد يكون كلامه صحيحًا نوعًا ما، الأمر الذي جعله يظنّ بأنه يملك إرثًا ومرافعةً أدبية قديمة خلفه تسمّى بكتاب (الهويات القاتلة) تكفي تمامًا لتصدّ عنه أي مساءلة أو استنكار وتمنحه عذرًا قد يكون في نظري أسوأ بكثير مما يحاول أن يقوله بيننا.

“نظرتنا هي التي غالبا ما تسجن الآخرين داخل انتماءاتهم الضيقة ، ونظرتنا كذلك هي التي تحررهم”* << هذا ماجاء في أحد الفصول الكتاب، أعتبر المبدأ صحيح بالطبع لكنّني أختلف كثيرًا مع تعريفه أو نظرته للضيق و السّعة في المقام الأول .. إضافةً إلى أنه نسي حذره الأول الذي بدأ به أوّل فصول الكتاب (لقد علّمتني حياة الكتابة أن أرتاب من الكلمات، فأكثرها شفافيّة غالبًا مايكون أكثرها خيانةً)*

هنا أصفق له بحرارةٍ فعلًا .. أكثر الكلمات التي نكتبها مصداقيةً وشفافيةً غالبًا مايكون أكثرها خيانةً، أدرك ذلك بنفسي عندما يحملني الفضول أو الحنين لأن أفتح أدراجًا وصناديقًا مليئةً بالمسودات والقصاصات المبتورة والعديد من الرسائل التي لم تصل، والتي لم تكتب لتصل أبدًا والتي لم يكن لها نصيب من الوصول فظلّت تحرسُ البرد وتلعنُ العتمة كأمل يائس في الخلاص وربّما خوفًا من يأسٍ لايمتّ لأبشع كوابيسها بصلة. الكثير من الكلمات وجدتها وكأنها تحولت لقدر أعيشه، وكأنني ألقيت على نفسي تعاويذ عديدةً غير مكتملة وبقيت أكتمُ وحشتها، أصرخ في وجه أشباحها، أنفثُ أسماء من أحبّهم ثلاثًا عن اليمين والشمال كلّ ليلةٍ اتقاءً لكوابيس تعرف كيف تتسلّل جيدًا وتبقى رابضةً في زوايا الصمت في انتظار أن أنام.

 

أكتبُ الآن من مكان مزويّ، بعيد جدًا عن بال الكثير ممّن أحبّهم، أحرسُ ذاكرتي من يدي، وأقبضها بقوّة أحاول أن تكون كافيةً لتضرب صدري كلّما باغتتني حرقة أو بُحّ في ذاكرتي شوق كسير أو لمع النّداء في عينيّ دمعًا لا أملك عليه قدرةً منذ وقت طويل، غير أني أمضيت وقتًا طويلًا في محاولة هزلية لترويضه ليس أكثر.

أفكّر فيما كانت ستكون عليه الأيام، ماكان ضرُّ الحياة لو أنّها برّت بعهودنا، أو ادعت أنها لاترانا، ماكان ضرّها لو تركتنا وأسبابنا، نجمع أفراحنا ونحرسُ قلوبنا من الوحشة ولو بشيء من حياة وأشياء من دفء وأمل كان يكفي تمامًا.. تمامًا لأن نرجو الأيام لأن تركض بنا لكلّ غد قسمنا له من الجنون نصيبًا وافرًا، ونلهث نحو الهواتف ونحن نتوسّل للزمن أن يتوقف تمامًا أو ينسانا في بضع دقائق كانت تكفي تمامًا لأن نغمض أعيننا بسلام من دون أن نضع احتمالًا أو نلتفت لمخاوفنا وأبشع كوابيسنا ولو من باب السخرية فقط.

أكتب الآن من هنا أول ماوجدته في يدي وبقيّة مما ادخرته في خابية روحٍ لا أجرؤ على الاقتراب من خزائنها، عرفت كيف يمكن أن أكون روحًا تهيمُ بخفّة، تركضُ حافيةً على بلاط الدهشة من دون خوف حتى تتربّع عند عرش الدفء، تخبّئ فرحتها عن ألسنة الجيران وأطفال الحيّ وتبتسم بامتنان في وجه الوقت .

27/3/2018

About lalloshcoffee

، أنا الصّلة العميقة بين الظلام والصمت التي لم يفهمها أحد بعد، احتمالٌ يسع الجميع طبعًا ولن يجرح سوى نفسه.. نسيت أن أنسى، وأن أكبر متناقضة لدرجة أنني واضحة..! أحاول أن أكون نفسي .. ولا شيء أكثر .. نصيحة .. إذا أردت أن تكسبني .. لاتحاول أبدًا أن تفهمني و إياك أن تفسرني !

أضف تعليق